تلزيم لبنان الرقعتين 4 و9 خطوة مهمة وبداية حسنة يؤمّل أن تؤدي الى اثبات وجود الغاز والنفط من جهة، والى استمرار حسن إدارة العمليات البترولية لخلق عوائد يحتاجها البلد، علة أن تُحوّل الى فوائد مستديمة للمواطنين.
كان لي، قبل عشر سنوات، شرف المشاركة في مناقشة خطوط السياسة البترولية للبنان. منذ ذلك الحين، أمكن لي المساهمة في مناقشات متعددة على مستويات حكومية وشعبية مختلفة، وفي مراحل مهمّة، من عملية تحويل السياسة النفطية الى تشريعات وتنظيمات إدارية، وتحضيرات أوليّة لجولات التراخيص. وما حقّقه لبنان، حتى الآن، من تحضيرات وتحصينات تشريعية وتنظيمية أمر يستحق الاشادة. وهي الاشادة نفسها التي يستحقها امتناع هذا البلد، لسبب أو آخر، عن الدخول في معمعة الغاز والنفط قبل ان يتوفر له جهاز حكومي مقتدر على القيام بدوره الصعب.
من زاويتي البعيدة في النروج، حاولت في السنين الاخيرة ــــ عن طريق الزملاء والندوات العلمية والاعلامية ــــ متابعة التطورات البترولية في لبنان. ويبدو لي من هذه المتابعة امران:
أولاً، ان هناك اهتماماً كبيراً بما يدور في مسار التراخيص الأولى في الرقعتين 4 و9. هذا الاهتمام، من دون شك، ظاهرة تستحق الاسناد والتشجيع.
ثانياً، ان الكثير من التعليقات تشوبها معالم سوء الفهم، إما في ما يتعلق بالتنظيم الحالي أو في تفسير المفاهيم المستعملة في الوثائق الرسمية.
رغم البدايات الحسنة، في لبنان أو غيره، فانني أؤمن بضرورة المتابعة الدائبة لقطاع البترول من قبل المواطنين، ليس فقط لحماية منجزات التنظيم البترولي السائد من التدهور، بل أيضا لتطويره وتقويمه اذا اقتضى الامر. لذلك يجب تشجيع الحوار بين المواطنين والسلطات والشركات العاملة. غير ان الحوار لا بد من أن يكون على أسس صحيحة وتفهم عميق للواقع ولتجارب البلدان الأخرى. وقد دلت التجارب، في كل البلدان، على ان أي إساءة في الفهم ستؤدي الى جهود ضائعة، وفي أسوأ الحالات، الى تقويض ما هو صحيح واستبداله بما هو أسوأ. لهذا السبب، اعتقد ان من الضروري التأكيد على صحة التفهم ودقته عن طريق الحوار.
يتعلق الحوار الذي يدور هذه الأيام في لبنان بمواضيع أساسية قليلة وجدتها تستحق الشرح والتعليق، عسى ان يساهم توضيحها في تسهيل هذا الحوار وتقويته.

1 ــ نقطة الانطلاق

رغم العناوين البارزة في بعض الأوساط الإعلامية واهتمام بعض شركات النفط بالمياه الإقليمية، لا يوجد حتى الآن أي دليل ملموس لوجود النفط او الغاز في السواحل اللبنانية. كما لا يمكن التنبؤ، بصورة مقنعة، بحجم أي تجمّع للبترول تحت سطح البحر، وما اذا كان يحتوي على غاز او نفط او كليهما. وحتى لو آمنّا بوجود الغاز، كما يدّعي كثيرون، فلا بد من معرفة الحجم والتركيب بثقة وبدقة، لنبدأ التفكير بالجدوى الاقتصادية للاكتشاف تحت الظروف الصعبة بخصوص سعر الغاز مقرونة بعمق المياه. عدم وجود جواب جازم وحاسم، او على الأقل مقنع، بخصوص حجم المصدر وطبيعته، يضيف الى عنصر المجازفة التي تواجهها الشركات في صرف أموال طائلة لحفر الآبار في أماكن عميقة من البحر. ومن الأمور المهمة التي تنظر فيها الشركات، الوضع العام في البلد وفي المنطقة. وقبل ان تقرر أي شركة ما اذا كانت ترغب في طلب رقعة ما، لا بد لها ان تقتنع بأن احتمال الحصول على ربح كاف في حالة النجاح يفوق المجازفات المكمنية والتجارية والسياسية التي ستواجهها. ولحسن الحظ، لا تتوصل كل الشركات الى التقييم نفسه، مما يساعد على نجاح جولة ما على رغم وجود ظروف غير مشجعة بالنسبة لاغلب الشركات الأخرى الراغبة مبدئيا في الطلب.

2 ـــ ما هو العقد المناسب؟

اختيار نوع العقد يعتمد بصورة خاصة على واقع البلد لجهة التحقق من غزارته بالمصادر البترولية. لهذا، لا يمكن لبلد لم يتم فيه اكتشاف البترول بكميات تجارية مقنعة ان يفكر في استعمال عقد الخدمة او عقد إعادة الشراء، لأن هذين النوعين من العقود يفترضان وجود شركة وطنية تأخذ على عاتقها مسؤولية تطوير الحقول وانتاجها. وبسبب حاجة الشركة الوطنية الى خبرات وإمكانيات تشغيلية إضافية، يختار البلد ان يعزز إمكانيات الشركة الوطنية باستخدام شركات عالمية تقدم الخدمات لها. ومن المعتاد، تحت عقد الخدمة، ان تكون واردات شركات النفط هذه مقصورة على استعادة التكاليف بسرعة وتحقيق ربح معقول على الرساميل التي تستعملها في عمليات التطوير والإنتاج. لذلك، تحقق الدول التي تستخدم عقود الخدمة نسبة عالية من الأرباح، إضافة الى احتفاظها بالمبادرة في وضع الخطط وتنفيذها للاستفادة من المصادر وفقاً لمصلحة البلد.
اما بالنسبة الى بلد لا يمكنه الادعاء بوجود ثروة بترولية مثبتة في أراضيه او مياهه الإقليمية، فليس له أي سبيل آخر سوى محاولة جذب الشركات لتبحث عن البترول في أراضيه عسى ان تفلح في إيجاده. والى ان يتم اكتشاف البترول بكميات تجارية، لا بد لمثل هذه البلدان ان تعرض مكافأة معقولة للشركات الراغبة في التنقيب (مثلاً على شكل نسبة معقولة من الربح وسرعة في تسديد التكاليف)، من دون ان تتنازل عن حقها كمالكة للمصادر البترولية في الاحتفاظ بأكبر جزء من الربح في حالة النجاح في تحقيق ربح مرموق، مثلا بسبب غزارة الحقل او عند صعود الأسعار في الأسواق العالمية.
على المسرح الدولي، وجدت اكثر البلدان التي لا تملك ثروة مثبتة للبترول، ان عقود مشاركة الإنتاج المفضلة من قبل شركات النفط الدولية قد تكون وسيلة مناسبة للبلد ايضا لتحقيق الاكتشاف الاول. السبب الرئيسي لتفضيل عقد مشاركة الإنتاج من قبل شركات النفط، هو ان العقد يسمح بقدر من المرونة في ما يخص تحديد المكافأة للمستثمر، بصورة تتناسب مع حجم وطبيعة المجازفة التي تتعرض لها الشركة المستثمرة. ويعني مفهوم المرونة، هنا، ان نسبة أرباح البلد قد تكون معتدلة في بداية الإنتاج من حقل «أ»، ولكنها ترتفع كلما زاد الدخل بالنسبة للمستثمر من الحقل نفسه. كذلك تعني المرونة ان نسبة مشاركة الربح في حقل آخر (مثلا حقل «ب») ستختلف عن تلك التي في الحقل «أ» اذا كانت المجازفة مختلفة بين الحقلين. وهكذا، من الممكن استعمال هذه المرونة اذا ما اقتنعت السلطات بوجود فروقات ملموسة بين القطع المختلفة، أو حتى بين التراكيب الجيولوجية المختلفة في الرقعة نفسها.
الميزة الأخرى لعقود مشاركة الإنتاج في العديد من البلدان، هي حق دخول الشركة الوطنية كشريك للمقاول بنسبة تتراوح عادة بين 5% و20%. ومن الجدير بالذكر ان وجود شركة وطنية لا يعتبر شرطاً ضرورياً للاستفادة من هذا الحق. فهناك حالات كثيرة تدخل فيها الوزارة شريكاً للمقاول بدلا من شركة وطنية. المهم في مفهوم مشاركة الانتاج هو دخول شركة النفط (او الوزارة) كشريك يتحمل حصته من المسؤوليات والمخاطر مقابل التمتع بنسبة حصته من الربح. وحتى لو نصّ العقد على ان المقاول يتحمل تكاليف حصة الشركة الوطنية أو الوزارة الى حين بدء الانتاج، فعلى البلد ان يدفع حصته من تكاليف التنقيب والتطوير والإنتاج، قبل ان يستلم ما يتبقى من عائدات البترول. بعبارة أخرى، فان دفع حصة المشاركة الوطنية من مجموع تكاليف عمليات النفط للمقاول، يؤجل دفع جزء كبير من عوائد النفط للخزينة، حتى يتم استرجاع هذه التكاليف من قبل المقاول.
في ما يخص دورة التراخيص الأولى في مياه لبنان، اختارت السلطات «أنّه ليس للدولة نسبة مشاركة في دورة التراخيص الأولى» بالاستناد الى مبادئ متعددة:
ــــ يقتضي على الدولة، في حالة مشاركتها في الأنشطة البترولية State Participation، أن تسدد حصتها من الاستثمار وتتحمل مخاطر فقدان هذه المبالغ في حال الفشل.
ــــ هذه المشاركة لن ترفع من ربح الدولة لأنّ الشركات ما زالت تتحمل كامل أعباء المخاطر وكامل التكاليف، وبناءً عليه سينخفض عرضها التجاري المقدّم الى الدولة بما يتناسب مع النسبة المئوية لحصة الدولة.
ــــ بقاء المخاطر على مستوى عال في الدورة الأولى بسبب عدم توفر أنشطة حفر تنقيبية سابقة أو اكتشافات محققة.
توجد، بالطبع، أنواع اخرى من العقود (كعقود الامتياز وعقد الشراكة) لا يتسع المجال هنا للخوض فيها، خصوصاً أنها تعتبر غير واردة بالنسبة للبنان في الوقت الحالي. وفي ما يخص نظام الامتياز، فان تاريخ استعماله في منطقة الشرق الأوسط في أوائل القرن الماضي لا يشجع على إعادة النظر في استعماله. غير انه من الجدير الإشارة، هنا، الى ان التجربة النروجية كانت ولا تزال مبنية على نظام الامتياز بعد تحويرات وتطويرات مهمة، جعلت التنظيم اكثر تجاوبا للتطورات الدولية حتى نهاية القرن الماضي. أما عقد الشراكة الذي يمارس في بعض البلدان العربية (عمان مثلاً)، فينطوي على دخول البلد في شراكة تقليدية مع احدى الشركات النفطية الكبرى لغرض تطوير وإنتاج حقول مثبتة، إضافة الى التنقيب أو بدونه في مساحات محددة.

3 ـــ الوقت المناسب لتأسيس شركة وطنية

كما سبق ذكره ـ فان التحدي الأكبر أمام لبنان اليوم، هو عدم معرفة ما اذا كانت المياه الإقليمية تغطي ثروة او ثروات بترولية كبيرة، وما اذا كانت هذه الثروات كافية لتطوير وإنتاج ما قد تكتشفه الشركات الثلاث تحت التراخيص التي منحت حديثاً في الرقعتين 4 و9. واذا افترضنا ان البئر الأولى ستكشف عن كميات من الغاز أو النفط، فلا بد لنا من التمهل الى حين إنهاء البئر الثانية أو الثالثة، قبل التأكد من حجم الاكتشاف الذي يمكن الاعتماد عليه لتقييم جدوى الحقل تجارياً. وهذه العملية قد تستغرق ما لا يقل عن ثلاث سنوات.
عند التأكد من وجود احتياطيات كافية لادامة انتاج النفط أو الغاز لمدة تزيد عن العقدين، لا بد للبلد من النظر ملياً في الفوائد والتكاليف المتوقعة من تأسيس شركة وطنية للبترول. اما النظر في هذا الخيار، قبل التأكد من استدامة أعمال الشركة، فقد يؤدي الى انشاء مؤسسة أو أكثر من دون مستقبل مضمون، إضافة الى ما يتبع ذلك من تكاليف باهظة ومشاكل عملية وإدارية. ويكفي، هنا، ان نتصور عشرات الموظفين الذين يتساءلون عن أولويات أعمالهم وجدوى وجودهم كشركة، من دون ان تكون الإجابة ممكنة لعدم توفر البيانات اللازمة التي تجعل الرؤية واضحة.
عند توفر المصادر البترولية الكافية لضمان إنتاج لعقود مقبلة، سيكون من الضروري إعادة النظر في التشريعات وصيغ العقود والاستراتيجيات السارية المفعول لادارة القطاع وتحديثها، وبعدها وضع الخطط وتنفيذها لتطوير قطاع النفط، بحيث يكون محركاً فعالاً يرفع البلد في أي من المجالات التالية:
ــــ المشاركة الفعالة في عمليات التنقيب والتطوير والإنتاج.
ــــ مضاعفة الجهود في تشجيع وتنمية المحتوى المحلي لقطاع النفط والغاز.
ــــ المبادرة في وضع الخطط للنقل والتجهيز المحلي بالنفط والغاز وتوزيع المنتجات.
ــــ النظر في مشاريع خلاقة للاستفادة صناعياً من النفط والغاز.
ــــ النظر في تطوير وتحسين متابعة العمليات البترولية.
ــــ ...... الخ.
عندئذ، سيتضح للسلطات ان كانت هناك حاجة لتأسيس مؤسسات تعمل دائبة لتحقيق بعض من هذه الأهداف المهمة.
ويجدر الذكر هنا ان نجاح النروج في سياستها البترولية عامة، وفي نجاح الشركة الوطنية خاصة، يرجع الى ان البلد تحاشى، بتصميم، الإسراع في اتخاذ أي قرار جسيم (أي يصعب تعديله من دون ثمن بالغ) قبل ان تتوفر الثوابت اللازمة لاحتمال استمراريته. فعلى سبيل المثال، لم يقر البرلمان النروجي موضوع الجهاز الإداري لادارة البترول الا بعد التيقن من الاكتشافات العملاقة في منطقة أكوفيسك، خصوصاً في عامي 1970 و1971.

4 ــــ أسس نجاح الشركة الوطنية

قبل بحث العوامل التي تساعد على نجاح الشركة الوطنية، علينا ان نميز، مبدئياً، بين الشركات الوطنية ذات الهوية التجارية، وتلك التي تحمل اسم شركة فيما هي في الواقع لا تختلف عن أي مؤسسة حكومية اخرى. ومما يساعد على التمييز بين ما هو تجاري وما هو حكومي، التساؤل عما اذا كانت المؤسسة المعنية تحتفظ بجزء من أرباحها، وما اذا كانت تقوم بدور المشغّل في بعض مهماتها. من اجل التوضيح، فان الشركات الوطنية في العراق تابعة إدارياً ومالياً لوزارة النفط في بغداد وتعتبر جزءاً لا يتجزأ منها، رغم انها قد تعتبر نفسها تجارية. المهم هنا هو ان نتفق على ان العهد بمهام تجارية لشركة ما يمنع المؤسسة من القيام بمهام ناظمة. السبب مهم للغاية. إذ ان المصالح التجارية تتضارب مع الموضوعية التي تتطلبها المهام الناظمة.
4.1 تحديد الهدف: السؤال الأول الذي لا بد من الإجابة عليه بوضوح هو ان كان البلد بحاجة الى شركة وطنية. اذا كان الجواب نعم فلا بد من تحديد الهدف بكل وضوح ودقة.
الجواب المعتاد على هذا السؤال في البلدان الثرية بالنفط والغاز هو ان البلد يحتاج الى شركة وطنية لهدف المشاركة في التنقيب والتطوير والإنتاج (صناعات المنبع). والهدف من هذه المشاركة تحقيق واردات للبلد إضافة الى العوائد التقليدية عن طريق الضرائب. في حالة لبنان اليوم، ستكون المشاركة الوطنية مباشرةً في عمليات التنقيب مكلفة ومحفوفة بالكثير من المجازفة. كذلك من المتوقع ان تتطلب المشاركة في عمليات التطوير والإنتاج الكثير من التجارب، إضافة الى دعم مالي جسيم للتمكن من استيعاب تكاليف التشغيل وعواقبه في ظروف طليعية تتمثل بمياه عميقة للغاية. لهذه الأسباب تكتفي السلطات حاليا بتقوية المتابعة الناظمة لعمليات الاستكشاف والتطوير والإنتاج، بينما تحتفظ بحقها في المشاركة لاحقا عند توفر البيانات والأدلة اللازمة.
ولعل اهم الاسباب المشجعة لانشاء شركة وطنية هو تحقيق رغبة البلد في تعزيز اكتسابه للتكنولوجيا الحديثة، ومساندة اصحاب الإمكانيات المحلية لتعزيز مشاركتهم في العمليات البترولية (المحتوى المحلي). المفروض، هنا، هو ان الشركة الوطنية مطلعة تماما على القدرات المحلية ومؤمنة بها، بحيث تستطيع ان تضمن اسرع وافضل طريق لتشجيع الصناعات المحلية واستعمالها في عمليات البترول. بالنظر الى أن التكنولوجيا التي ستستعمل في المياه اللبنانية خلال السنوات الثلاث المقبلة ستكون محصورة بعمليات التنقيب، ولكون عمليات الحفر البحرية جديدة على الصناعة اللبنانية، فقد يكون من المناسب ان يستعمل البلد السنوات الثلاث المقبلة لتقييم فرصه في المشاركة كمقاول او مجهز في العمليات التنقيبية المرتقبة، بينما يتدبر كيفية التحضير للمشاركة في عمليات التطوير والإنتاج.
وفي ما يتعلق بالمشاركة في عمليات نقل وتصنيع النفط والغاز وتوزيعهما محليا او في المنطقة المجاورة، فإن تقييم المشاركة يعتمد على الكثير من الاثباتات والبينات التي لا يمكن توفيرها قبل الحفر. مبدئياً، تبدو المشاركة الوطنية المباشرة في هذه العمليات اكثر وجاهة وأقل مجازفة من المشاركة في عمليات التنقيب والاستخراج.
4.2 تمويل التاسيس والتطوير: مهما كان الغرض من انشاء الشركة الوطنية، وبغض النظر عن المصدر لتغطية تكاليف استثماراتها، ليس هناك أي شك في ان خلق وتطوير شركة وطنية يمثلان عملية مكلفة يدفعها البلد من عائدات البترول بدلا من استعمال العائدات لتقوية الاقتصاد الوطني مثلاً. وتدل الحسابات الواقعية في العديد من البلدان الى ان عملية تمويل شركة وطنية تعمل في قطاع التنقيب والاستخراج بحرا تسببت، على أقل تقدير، في تأجيل جزء كبير من عوائد النفط لما يقارب 12 عاماً. لكل هذه الأسباب يجدر بنا ان نكون على حذر عند تأسيس شركة وطنية، وذلك لضمان نجاحها وحمايتها من المجازفات التي قد تهدد القيم التي يضعها البلد في تأسيس شركته الوطنية وتطويرها.
المفروض من أي شركة تجارية هو انها تسعى، في أسرع وقت ممكن، إلى خلق أرباح للمالكين سواء كانوا من القطاع الخاص او من الحكومة. من الناحية الأخرى يتحمل المالكون عبء تمويل الشركة في البداية وتمويل تطويرها الى حين بلوغ أهدافها وانضاج قدراتها. وفي حالة انشاء شركة وطنية، تتعهد الحكومة عادة بتمويل الشركة مباشرة في البداية، وبعد ذلك بواسطة تحويل حصة المشاركة الوطنية (في عقود مشاركة الإنتاج مثلا) الى الشركة الوطنية لتستعملها في تطوير وزيادة قيمة الشركة. من الناحية النظرية على الأقل، بامكان الحكومة ان تسترجع استثماراتها في الشركة الوطنية عن طريق بيع حصصها في الشركة الوطنية في وقت مناسب لاحقا. غير ان البلدان النفطية في الواقع قلما تقوم باستعادة استثماراتها بهذه الطريقة.
بالطبع، من الممكن ان تعتمد الحكومة على تمويل شركتها الوطنية عن طريق الاستدانة من القطاع الأهلي. مع هذا، لا بد من ان تقدم الحكومة ضمانات أو كفالات لمساعدة الشركة على تحقيق الاستدانة. في اغلب الحالات تضطر الحكومة الى القيام بتمويل الشركة عند تأسيسها وخلال فترة تطويرها. مقابل هذه الاستثمارات تتوقع الحكومة تحقيق انجازات، منها مثلاً:
ــــ ان تحقق الشركة نموا مباشرا في قيمتها السوقية اذا كانت شركة مساهمة.
ــــ أن تحقق انجازات اجتماعية او مؤسسية تساهم في تعزيز حسن الإدارة.
ــــ أن تساهم في تنفيذ خطط واستراتيجيات الحكومة بحيث تساهم في تطوير الاقتصاد الوطني.
أسهل أنواع التمويل، هو ان تُعتبر الشركة مؤسسة حكومية تدفع الحكومة احتياجاتها المالية عن طريق ميزانية الدولة. في هذه الحالة، يكون للحكومة حق محاسبة الشركة كجزء لا يتجزأ من الجهاز الحكومي. لذلك تتمكن الدولة من السيطرة التامة على إنجازات الشركة ومسار تطورها. من الجانب الآخر، فقد يكون تمويل الشركة الوطنية عبئا لا يتحمله حجم خزينة الدولة.
4.3 إمكانية تصحيح مسيرة الشركة الوطنية: في حال رغبة الحكومة في خلق كيان منفصل بشكل من الاشكال عن الكيان الحكومي (مثلا لتقليل البيروقراطية، او منح صلاحيات واسعة للشركة، أو دفع رواتب اعلى للموظفين، أو خلق حوافز او أهداف اقتصادية الخ)، فلا بد من خلق كيان شبه حكومي او أهلي. في هذه الحالات يجب ان تنظر الحكومة، بدقة، في كيفية التأكد من التزام الشركة بالاهداف التي تضعها الحكومة. كذلك، وعندما يقتضي الامر، علينا ان نخطط كيف تستطيع الحكومة التأثير على قرارات الشركة بحيث تتناغم مع الأهداف التي وضعتها الحكومة. كل هذه الأمور تحدد في النهاية نوع العلاقة بين الحكومة والشركة الوطنية. والذي يجعل هذه الأمور في غاية الاهمية، هو انتشار ظاهرة رجوح كفة الشركة الوطنية تجاه الجهاز الحكومي عند اختلاف الرأي بين الاثنين، خصوصاً في الدول الثرية بالنفط والغاز.

* خبير نفطي نروجي من أصل عراقي. عمل 12 سنة في أنشطة الاستكشاف مع شركة البترول العراقية IPC كجيولوجي وكخبير في التخطيط لتطوير الحقول البترولية. لعب دورًا أساسيًا في تأسيس القطاع البترولي النروجي بين 1968 و1973. شغل منصب مدير الموارد البترولية في النروج بين 1973 و1990. يعمل منذ العام 1991 كإستشاري دولي، وساعد على وضع أنظمة حوكمة قطاع البترول في عدد من الدول.