منذ أكثر من أسبوعين، والبلاد عالقة في أزمة مرسوم الأقدمية الذي وقّعه الرئيسان ميشال عون وسعد الحريري لضبّاط ما يسمّى دورة عون 1994، أو دورة الانصهار الوطني. ومع أن الكباش يأخذ شكلاً دستورياً بين عون ورئيس المجلس النيابي نبيه برّي، إلّا أن تمسّك الطرفين بمواقفهما بات يعكس أزمة سياسيّة في العمق، إن نجحت وساطة ما (لم تبدأ حتى الساعة) بحلّها، فإن الأزمة ستبقى قائمة، وتنتظر فرصة مناسبة أخرى لتعبّر عن وجودها.
ويبدو الغرق في النقاش الدستوري على طرفي المواجهة، هروباً من حقيقة الصراع في ضوء المتغيّرات التي تطرأ تباعاً على موازين القوى في النظام السياسي اللبناني، والتحولات التي أصابت اتفاق الطائف، على الأقل منذ وصول الرئيس ميشال عون إلى سدّة الرئاسة والأزمة التي طاولت أخيراً الرئيس سعد الحريري.
فعون، وإن كان لا يزال يحافظ في الخطاب والشكل على اتفاق الطائف، إلّا أنه لا يوفّر جهداً لاسترجاع صلاحيات رئيس الجمهورية القوي في ما قبل الطائف، لتحصيل ما لا يمنحه النص الدستوري صراحةً. ويستفيد عون من عوامل داخلية ودولية لتحقيق استعادة موقع الرئاسة المسيحي القوي، أوّلها داخلياً عبر احتواء الحريري واحتضانه ومساعدته للحد من خسائره في الانتخابات النيابية المقبلة، وبالتالي ضمان توقيعه إلى جانب توقيع رئاسة الجمهورية.

عون يجري جردة حساب للحقبة السورية بمفعول رجعي


ويستفيد عون أيضاً من الضعف الذي أصاب النائب وليد جنبلاط لناحية انحسار تأثيره على اللعبة الداخلية بفعل تقلّباته السياسية طوال العقد الماضي. كذلك يدرك عون أن موقف حزب الله، مهما تعاظمت الملفات الخلافية الداخلية، لا يمكن أن يكون صدامياً معه، على أساس العلاقة الاستراتيجية التي تجمع الطرفين، ولا سيّما مواقف عون في ما خصّ الصراع مع إسرائيل والمواجهة مع السعودية. كلّ هذا داخلياً، يدعمه شبه تأييد دولي لعون، أوروبي تحديداً، تحت عنوان تقوية مؤسسات الدولة اللبنانية وعزلها عن التأثيرات الإقليمية. ويبدو عون بالنسبة إلى كثيرين، منهم نواب ووزراء في قوى 8 آذار وتيار المستقبل، كمن يحرص عند كلّ فرصة، على استرجاع ما يمكن استرجاعه من مرحلة ما قبل 13 تشرين الأول 1990 بتصفية حساب غير معلنة مع الحقبة السورية.
أمّا على مقلب برّي، فرئيس المجلس النيابي الذي لم يخف موقفه من انتخاب عون، بسبب عدم الاتفاق على ما سُمِّي يومها «السلة»، وهي خريطة طريق كان المبتغى منها إعادة تثبيت اتفاق الطائف، ليس في وارد التنازل عمّا يعتبره تحوّلات في لبنان ما بعد الطائف، حقّقت جزءاً من التوازن الذي كان مفقوداً بين الطوائف في لبنان ما قبل الطائف، وهو ما زكّى الحرب الأهلية اللبنانية.
من هنا، تبدو أزمة برّي مع مسألة توقيع وزير المال، أبعد من توقيع وزير مختصّ على مرسوم، إنّما دلالة على اهتزاز مبدأ التوافق الذي ترسّخ بعد الحرب. إذ إن برّي، الذي وإن كان دائماً يتمسّك بمواقفه، فإنه يترك هامشاً واسعاً للتفاوض والحلول الوسط، بات اليوم أمام مفترق طرق: إمّا التشبّث بحقوق تكفلها ديباجة دستورية (حول الأعباء المالية التي يكلّفها مرسوم الأقدمية) وتعكس توافقاً في البلاد، وإمّا التنازل عن المبدأ لأجل الاستقرار السياسي، مع الخوف من تحوّل هذا التنازل إلى عرف، يهدّد الصيغة القديمة القائمة برمّتها، من دون اتضاح الأفق لصيغة جديدة.
غير أن تخوّف برّي من المفترض أن يكون هاجساً عند الحريري. إذ إن برّي، الذي يتعامل معه حزب الله كحليف أوّل وممثّل «حقوق الشيعة» في النظام السياسي اللبناني، يدرك كيفية «تثبيت الحقوق» عند البحث الجدّي في إعادة توزيع محاصصة النظام اللبناني. فيما يبدو الحريري، وما يمثّل طائفيّاً، وهو الخارج من أزمة كبرى مع المملكة العربية السعودية، أمام تحوّلات تطاول صلاحيات رئيس الحكومة «السّني»، التي منحها الطائف في جزئها الأكبر من حصّة رئاسة الجمهورية. وإن أي تعديل في صلاحيات رئاسة الجمهورية، وإن كانت في النفوذ وليس في النّص، فإنها ستكون على حساب صلاحيات رئاسة الحكومة، في عصر يصعب معه استعادة هذه الصلاحيات، مع أفول النفوذ السعودي في المشرق عموماً وفي لبنان على وجه الخصوص.
تقنيّاً، وبعد أن جُمّدت مبادرة المدير العام للأمن العام اللواء عبّاس إبراهيم لحلّ الأزمة بين برّي وعون، أعلن إبراهيم من السرايا الحكومية بعد لقاء الحريري أن رئيس الحكومة الآن سيلعب دوره بالوساطة، و«هو أولى». فيما انحصر لقاء برّي بقيادة الجيش اللبناني أمس بتلقي التهاني بالأعياد والاستماع من بري إلى المسار الذي سلكه المرسوم بين بعبدا وعين التينة، وتأكيد بري حرصه على المؤسسة العسكرية.
وحتى ليل أمس، لم يكن قد سجّل أي تطوّر لافت على طريق حلّ الأزمة، إلّا أن السّجال استمر أمس، مع إعادة التراشق بالمواد الدستورية بين الطرفين، لتأكيد أحقيّة موقف كلّ منهما.
وحتى الآن، لم يوقّع وزير المال علي خليل مرسوم الترقيات في الجيش بسبب ورود أسماء ضباط على جداول الترقيات من المستفيدين من مرسوم الأقدمية، فيما لم ينشر المرسوم بعد في الجريدة الرسمية، ما يجعله غير نافذ، ما يهدّد كلّ الترقيات في الأجهزة الأمنية والعسكرية، في ظلّ إصرار بعبدا على إصدار مرسوم واحد للترقيات.
وفيما كان قد طرح سابقاً خلال وساطة اللواء إبراهيم، منح أقدمية لضباط دورة 1995 الذين عانوا من ظروف مشابهة لتلك التي عاناها ضباط دورة عون، بدا الاقتراح شديد التأثير في المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي. وعلمت «الأخبار» أن اقتراحاً رفع من عدد من ضبّاط المديرية إلى وزير الداخلية نهاد المشنوق وأطراف أخرى لتدارك انعكاس الأقدميات على قوى الأمن. ويذكر الاقتراح أن تسوية منح الأقدمية لضباط الـ1995 تحلّ المشكلة في الجيش لناحية التوازن الطائفي ومن ناحية التراتبية العسكرية، إنّما ستخلق مشكلة كبيرة في قوى الأمن. إذ إن الأمر سينعكس على الضباط الحقوقيين الذين تخرجوا عام 1994، وهم حالياً رؤساء ضباط دورة 1995. ويشير الاقتراح إلى أن الضباط الحقوقيين أنهوا 4 سنوات دراسة جامعية وخضعوا لدورة في كلية الضباط لمدّة سنة، وتخرجوا برتبة ملازم (ما مجموعه خمس سنوات). ويشمل الحلّ المقترح بأن تُمنح دورة الحقوقيين 1994، نفس القدم للترقية، أسوة بدورتي 1994 و1995 للمحافظة على التراتبية في مؤسسة قوى الأمن الداخلي. علماً بأن ضباط هذه الدورة تأخروا عن الترقية إلى رتبة عقيد مدة ستة أشهر عن المادة المنصوص عنها في القانون من دون مبرر، فيما أعيدت الترقية هذا العام للضباط المستحقين إلى الحد الأدنى المنصوص عنه قانوناً.