مجدداً، تثبت المصارف أنها في الموقع الأقوى. ففي إمكانها مخالفة تعاميم مصرف لبنان، وفي الوقت نفسه انتزاع وعد من حاكمه رياض سلامة بتخفيف الغرامات! معادلة كرّستها المصارف، بالفعل والممارسة، في الأسابيع الماضية لجهة تجاوزات مراكز القطع العملانية، فيما يتصرف كل من «المركزي» ولجنة الرقابة على المصارف والهيئة المصرفية العليا كحماة للمصارف لا كهيئات ناظمة ورقابية تسهر على قمع المخالفات لمنع لتكرارها وللحؤول دون رفع المخاطر السوقية.
مركز القطع العملاني

مراكز القطع العملانية هي، بتعريف مبسّط، المبالغ بالعملات الأجنبية التي يُسمح لكل مصرف ومؤسسة مالية باستعمالها في العمليات اليومية (غالبيتها عمليات شراء لعملات أجنبية وبيعها للزبائن). يجري الزبائن عمليات تحويل من الليرة إلى الدولار وبالعكس، وتنفّذ المصارف الجزء الأكبر من هذه العمليات مع مصرف لبنان، لذلك تحتاج إلى سيولة كافية لإتمام عمليات التحويل. ويتم تكوين هذه السيولة بناء على نسب محدّدة من رأس المال أو الأموال الخاصة.
عملياً، وبذريعة الطلب المتزايد من الزبائن على التحويل من الليرة إلى الدولار أثناء أزمة استقالة الرئيس سعد الحريري، تجاوزت المصارف النسب المسموح بها لتنفيذ العمليات اليومية. وبحسب مصادر مصرفية مطلعة، قُدّر حجم التجاوزات بنحو مليار دولار، ما يرتّب على المصارف نوعين من الغرامات منصوص عليهما في المادتين الثامنة والتاسعة من التعميم 32 (أنظر الاطار المرفق). إذ تشير المادة الثامنة إلى أن «على المصارف التي تتجاوز السقف المحدّد لمركز القطع العملاني الصافي (1%) إيداع احتياطي خاص بالعملة اللبنانية لدى مصرف لبنان بقيمة التجاوز وذلك لمدة شهر عن كل يوم تجاوز». كما عليها، عندما تتجاوز السقف المحدّد لمركز القطع الإجمالي (40%)، «إيداع احتياطي خاص لدى مصرف لبنان بما يوازي قيمة هذا التجاوز بالدولار الأميركي بتاريخ حصوله بعد تنزيل قيمة التجاوز، في حال وجوده، على مراكز القطع العملاني الصافي، وذلك لمدّة شهر عن كل يوم تجاوز». أما المادة التاسعة، فتنص على أن «يستوفي مصرف لبنان من المصارف والمؤسسات المالية التي لا تتقيّد بموجب إيداع الاحتياطي الخاص المنصوص عليه في المادة الثامنة، فائدة جزائية محتسبة وفقاً لأحكام المادة 77 من قانون النقد والتسليف، وذلك بمعدل الفائدة المطبقة على التسليفات التي يمنحها مصرف لبنان لقاء سندات تجارية».

مخاطر التجاوز

تندرج طريقة احتساب مراكز القطع العملانية والغرامات المترتبة على التجاوزات ضمن الأمور التقنية المعقدة. لكن الاهم أن الأمر يتعلق بالهدف من احتساب مراكز القطع والغرامات. وبحسب عضو سابق في لجنة الرقابة على المصارف، فإن تنظيم العمليات اليومية للمصارف والمؤسسات المالية ليس مجرّد روتين يقوم به «المركزي»، بل هو على درجة عالية من الأهمية لأنه يتعلق بالملاءة المصرفية وبالمخاطر التي تنتج عن أي تجاوزات تحصل في السوق.

يتصرف «المركزي» ولجنة الرقابة والهيئة المصرفية العليا كحماة للمصارف لا كهيئات رقابية
بمعنى آخر، «فإن فقدان السيولة لدى المصارف بسبب قيامها بالعمليات اليومية أمر خطير، ولا يجب في أي وقت من الاوقات الاستهتار بهذا الامر لأن عواقبه قد تكون وخيمة. وإذا لم يترتّب عنه شيء هذه المرّة، فإن تكراره قد يشكّل خطراً كبيراً على القطاع المصرفي بكامله» وفق المصدر نفسه. ويضيف أن تجاوزات المصارف لمراكز القطع العملانية ناتجة عن ضعف سيولتها التي أشار إليها حاكم مصرف لبنان في اللقاء الشهري المنعقد في 21 تشرين الثاني. يومها قال سلامة أنه لن يمدّ المصارف بالسيولة من خلال عمليات حسم السندات وأنه لاحظ «أن المصارف أقرضت أكثر من 80% بالليرة اللبنانية في أواخر العام 2016 وعام 2017»... ثم شجّعهم على «توسيع هوامش الفوائد بين الدولار والليرة» كما ورد في محضر اللقاء. وفي ذلك الوقت كانت فائدة الانتربنك للاقتراض بين المصارف تتجاوز 120% بسبب نقص السيولة لدى المصارف!
الأخطر من هذا كلّه أن الحاكم وعد المصارف بتخفيف العقوبات، مشيرا إلى «أن المجلس المركزي لمصرف لبنان، في جلسته المقبلة، سيدرس موضوع الغرامات التي تنصّ عليها التعاميم والإجراءات المعمول بها في ما خص تجاوز مراكز القطع العملانية في اتجاه تخفيفها والتعامل الملائم مع التجاوزات، ما يسمح للمصارف باتخاذ مراكز قطع مكشوفة ومؤقتة. ويصب هكذا تدبير في استقرار سوق القطع».
إذاً، رغم كل المخاطر التي نتجت من تجاوزات المصارف لتعاميم «المركزي»، وعد سلامة بتخفيف الغرامات. وبحسب مصادر مصرفية متقاطعة، لم يبلّغ مصرف لبنان أي مصرف أو مؤسسة مالية بوجوب الإيداع الاحتياطي المنصوص عنه في المادة الثامنة من التعميم 32 ولا بوجوب تسديد الغرامات المنصوص عنها في المادة التاسعة من التعميم نفسه، «لا بل طلب من لجنة الرقابة على المصارف أن تدقق في كل حالات التجاوز للوقوف على حجم التجاوزات ثم حصرها بمعايير معينة. فعلى سبيل المثال، تعمل اللجنة على التمييز بين المصارف التي كسرت الوديعة للزبائن قبل استحقاقها وبين تلك التي صار لديها طلب على التحويل من الليرة إلى الدولار عند استحقاق الودائع. وهذه من المعايير التي ستستعمل لتخفيف الغرامات، إضافة إلى معايير أخرى للتمييز بين اسباب حصول التجاوزات.

إهمال أم تغاض؟

هذا التمييز الموضوعي ناتج عن مشكلة خطيرة. فإذا كانت المصارف أهملت تطبيق تعاميم «المركزي»، يتوجّب على الأخير وعلى لجنة الرقابة على المصارف معاقبتها بشدّة. أما إذا كانت المشكلة ناتجة عن تعميم مصرف لبنان الذي يحدد مراكز القطع فالمشكلة أخطر. إذ يعني أن الجهة الناظمة للقطاع لم تكن لديها الخلفية المناسبة لتنظيم القطاع. وفي كلتا الحالتين، فإن التغاضي عن الغرامات او تخفيفها سيدفع المصارف الى تكرار التجاوزات، وبالتالي تكرار تعريض القطاع وودائع الزبائن لمخاطر كبيرة.
حتى الآن يتضح أن لجنة الرقابة على المصارف لم تقم بدورها لناحية رفع تقرير بالتجاوزات والمتجاوزين إلى حاكم مصرف لبنان. ولا يجوز أن تتذرّع اللجنة بعدم علمها بهذه التجاوزات، إذ أن التعميم رقم 197 الصادر عنها في 5/5/1997 ينص في مادته الثالثة على أنه «يطلب من المصارف والمؤسسات المالية تزويد قسم عمليات القطع لديها (لجنة الرقابة) بتعليمات خطيّة تحدّد الحدّ الأقصى لمركز القطع العملاني الذي يمكن أن يتخذه المصرف أو المؤسسة المالية يومياً بكل عملة أجنبية على حدة، مع مراعاة عدم جواز تحريك مراكز القطع الثابتة دون موافقة مصرف لبنان». وتشير المادة الرابعة من التعميم نفسه الى أنه «على سبيل الحيطة والحذر من تقلبات أسعار القطع، على المصارف والمؤسسات المالية أن تكوّن مؤونة بالعملة اللبنانية بنسبة 5% من مراكز القطع العملاني الصافي المكوّن لديها في نهاية كل شهر، وتدرج هذه المؤونة في البند المخصص لذلك في الوضعية المالية».
مواد التعميم واضحة، إذ تفرض على المصارف أن تبلغ اللجنة يومياً بحدّها الأقصى لمراكز القطع، وعدم تحريك مراكز القطع من دون إذن مصرف لبنان، واتخاذ احتياطات إضافية في هذا المجال بتخصيص أموال بنسبة 5% كاحتياط! رغم ذلك، لم يفرض «المركزي» على المصارف بعد تطبيق الإيداع المالي المنصوص عنه، ولم يرفع الأمر إلى الهيئة المصرفية العليا لتطبيق الغرامات بحق المخالفين. إنه زمن المصارف.




التعميم 32

بحسب التعميم الأساسي الرقم 32 الصادر عن مصرف لبنان في 24 نيسان 1997 بعنوان «عمليات القطع لدى المصارف والمؤسسات المالية»، تحدّد المادة الثانية نسب مراكز القطع العملانية وفق الآتي: «يسمح للمصارف الاحتفاظ بمركز قطع عملاني صافي، مدين أو دائن، لا يتعدّى في أي وقت نسبة 1% من مجموع عناصر الأموال الخاصة الاساسية الصافية، على ألا يتعدّى مركز القطع الإجمالي لديها في الوقت نفسه ما نسبته 40% من مجموع الأموال الخاصة الاساسية الصافية، وعلى أن تكون المصارف المعنية متقيّدة بصورة متزامنة ومتلازمة بنسبة الملاءة المتوجبة».