يَخبط بيديه الصغيرتين باب الخيمة. هو داخلها. يستغيث مَن ينقذه، مَن يخرجه، ومعه شقيقه الأصغر. يصرخ. النار تقترب. وصلت. يصرخ أكثر. مَن سمعه لم يستطع أن يقترب. جدّه كان هناك، سمعه. جاء رئيس البلديّة، سمعه أيضاً. النار في كلّ مكان. المخيّم يشتعل. أخيراً، سكت يعقوب، أو محمد، أو سليمان. أمّا شقيقه الأصغر، واسمه عبد الله، أو مصطفى، أو خليل، فكفّ عن البكاء.
سكت أيضاً. سكتا، سكتوا، إلى الأبد. ثمانية أطفال ماتوا حرقاً. حصل ذلك يوم الخميس الأول مِن الشهر الجاري، في لبنان، عند الطرف الغربي لبلدة غزّة في البقاع الغربي. هناك، تماماً، عند مجرى نهر الليطاني. بلدة اسمها غزّة! ولكلّ مكان، ربّما أيضاً، مِن اسمه نصيب. في غزّة الفلسطينيّة مخيّمات «لاجئين» فلسطينيين. في غزّة اللبنانيّة مخيّمات «نازحين» سوريين. توصيفات قانونيّة لا تعترف النار بها. الأطفال مثلها أيضاً، لا يعترفون بجنسيّة، بدين أو مذهب، بوضعيّة سياسيّة، هم أطفال فحسب.
ما سبب الحريق؟ سؤال بائخ الآن. قيل «صوبيا» داخل خيمة. قيل «ماس» كهربائي. قيل لهو صبياني. لم يُقَل عن عمد شرّير. احترق «مخيّم الحماصنة» عن آخره. لم تكن هناك مطافئ كبيرة جاهزة. هذه ستأتي مِن بعيد، جدّاً، بعد أن أصبح المكان رماداً. حتّى عندما وصلت، لم يكن بإمكانها الدخول إلى العمق، إذ يُعيقها التكدّس البشري. الخيم مِن النايلون المقوّى. متلاصقة تماماً. أيّ فيلسوف «إنساني» يكون صاحب هذه الوصفة؟ بعيداً عن الآليات الكبيرة، لم يكن هناك قوّة إطفاء بشريّة متخصّصة. الكارثة بمحاذاة النهر الذي، على تلوّثه، كان لينفع في تلك الحالة. وصلت النار إلى ارتفاع أربعة أمتار تقريباً، على ما يقول الذين كانوا هناك، وزادت الريح في المشكلة. كان الطقس بارداً يومها. أكلت النار كلّ شيء على مدى ساعتين. نحو 36 خيمة ذابت... ومَن علق فيها.
مرّت الكارثة المخيّماتيّة الأوجع (سوريّاً) في لبنان، مِن غير ضجيج إعلامي، ومَن ذكرها إنّما جعلها ضمن «المتفرّقات». ما مِن وسيلة إعلاميّة ذكرت أسماء الضحايا. حتّى عددهم لم يُحسَم، في المحصّلة، إذ قالت «الوكالة الوطنيّة للإعلام» إنّهم تسعة. في الواقع هم ثمانية. كأنّ الحدث في كوكب آخر! مِن جهتها، أعدّت مفوّضيّة اللاجئين (التابعة للأمم المتّحدة) تقريراً إعلاميّاً، بعد تسعة أيّام، لكنها لم تضمّنه لائحة بأسماء الضحايا. جاءت على ذكر بعضهم، أمّا الباقون فمجرّد تكملة للعدد، أشباح. كان تقريراً دعائيّاً. لم يعد الخبر السوري مغرياً، عند الجميع، وكلّ لأسبابه. لقد ملّ العالم هذا الموت. لكن ماذا عن الذين تاجروا به، على مدى سنوات، وادّعوا التفوّق الأخلاقي ــــ الإنساني؟ ألم تعد التجارة بمأساة الأطفال «ربّيحة»؟ أم أنّ صدى الميدان يفضح؟ الهزائم عموماً فضّاحة. أين الضجيج، إيّاه، تحديداً مِن أجل الأطفال!

مخيّمات غزة تضم نحو 33 ألف نازح من دون آلية إطفائيّة واحدة

يقف «أبو خالد» بزيّه العربي عند باب المخيّم، أو ما كان مخيّماً. هو جدّ الأطفال الثمانية. لا يسمح لنا بالتجوّل إلا بإذن مِن البلديّة. نقصد رئيسها ونحصل على الإذن. نعود إليه، فيتلو علينا أسماء أحفاده وأعمارهم: محمد محمود حمادي (خمس سنوات) وشقيقه عبد الله (سنتان ونصف سنة)، يعقوب عبد الله حمادي (أربع سنوات) وشقيقته حلا حمادي (سنة ونصف سنة)، سليمان خالد حمادي (خمس سنوات) وشقيقه مصطفى (سنتان)، فاطمة إبراهيم حشيش (خمس سنوات) وشقيقها خليل (سنتان). كانوا في أربع خيم. أين كان آباؤهم لحظة الحادثة؟ في العمل. يطلبهم والدهم، فيحضرون. يبتعد «أبو خالد» ويطلب مِنهم محادثتنا. أربعة آباء. ثلاثة إخوة والرابع زوج أختهم. تركوا عملهم، في المخيّم نفسه، وأتوا ليتحدّثوا عمّا حصل. أربعتهم في عقدهم الرابع. آثار «الباطون» على ثيابهم. يعملون الآن في إعادة بناء ما احترق. هذه فرصة عمل! بعضهم كان بلا عمل قبل الحادثة. الآن «جاءت الأمم، وكلّ المنظّمات الدوليّة، لتُساعدنا بعد الذي حصل. كنّا نطالب كثيراً، تأتينا الوعود تلو الوعود، فقدنا أولادنا فأتوا». يتحدّث عبد الله، وقد بدا أكثرهم انكساراً. أمّا إبراهيم، فظهر أكثر صلابة، وكلّهم فيهم بالمقارنة صلابة عجيبة! يشكر «كلّ مَن اهتم بعد الحادثة. إنّه القضاء والقدر». أنت فقدت ولديك، لم يكن لديك سواهما، والآن نراك بهذا النشاط تعمل وتبدو متفائلاً! مباشرة يُعقّب: ««اسمع، بنتي فاطمة راحت، وابني خليل راح، بس الله ما راح، وهو إللي بعوّض. الله ما راح». لولا الإيمان! يوافقه خالد، مضيفاً، وإن بتلعثم: «الله كاتب لولادنا يموتوا هيك، وهون، ونحن مسلمّون لأمره». أخيراً محمود. وحده ظلّ صامتاً. وحده بقيت له طفلة واحدة: اسمها يمامة. يفتحون هواتفهم ويُقلّبون في صور أطفالهم. لولا هذه الهواتف! لم يبقَ لهم مِن ذكراهم إلا تلك الصور. شيء في برودة أعصاب الآباء هؤلاء يُشير إلى ما يُشبه الإنكار. أو ربّما هي آلية نفسيّة دفاعيّة أمام الآخرين. أو لعلّه اعتياد الموت السوري. ليس يسيراً فهم «الحالة السوريّة» اليوم.
أين كانت أمهات الأطفال لحظة الحادثة؟ كنّ في «سوق الخميس» الأسبوعي. قريب مِن المخيّم. لم نستطع أن نقابلهن. بدا أن رجال العائلة لا يودّون ذلك. هم مِن قرية تل الشور في حمص. إذا توفّرت لكم العودة الآن إلى بلدكم، هل تعودون؟ مباشرة يُجيب إبراهيم: «لا، ما منأمن على حالنا، ما منرجع بلا ضمانات».
يوافقه الثلاثة الآخرون على ذلك. ما الذي يجعل شخصاً فقد أولاده في مكان، بطريقة أكثر مِن قاسية، لا يُريد مغادرته بعدما أصبح «لعنة»... أقلّه كذاكرة! يحضر أحد اللبنانيين، اسمه أيمن، معرّفاً عن نفسه كمندوب لـ«منظّمة حقوقيّة». هؤلاء لا يُحبّون «تطفّلات» وسائل الإعلام. إنّه يعمل مع لجنة إيطاليّة (بالتنسيق مع الأمم المتّحدة). هناك، في تلك المخيّمات، تسمع كثيراً لفظة «أمم». جاءت «الأمم» وذهبت «الأمم» وسجّلت «الأمم»... السوريّون يقصدون بهذه الكلمة مفوّضية اللاجئين وكلّ ما علق بها مِن جمعيّات. يبخّسون بها غالباً، بسبب التقصير، ولكن عندما يحضر أحد مندوبيها ينقطع الكلام. الأزمة السوريّة، وما أنتجته في النفوس، ليس مِن السهل وصفه. عموماً، هذا كلّه لم يكن يعني شيئاً الأطفال الذين ماتوا. هناك أطفال آخرون شاهدوا ما حصل. رأوا موت أترابهم بالنار. سيكون مِن الصعب عليهم أن ينسوا. سيكبرون غداً. ما حصل في سوريا لن ينتهي غداً، ولا بعد غد، إنّه رهن ذاكرة أجيال ستكبر.




لا طفّايات

رئيس بلديّة غزّة البقاعيّة، محمد المجذوب، هو نفسه رئيس «اتحاد بلديّات السهل». لا تجد عنده حماسة تجاه الإعلام. ربّما ملّ حكايات «النازحين» السوريين. أو ربّما لأن هذا الملف بات ينطوي على كثير مِن الفضائح. عدد سُكّان بلدته نحو 6 آلاف، أمّا عدد السوريين فيها، الذي تدفقوا على دفعات منذ بداية الأزمة في بلادهم، فبلغ إلى الآن نحو 33 ألفاً. إنّهم أكثر بخمسة أضعاف مِن أهل البلدة! السوريون ليسوا محصورين فقط في المخيّمات. تجدهم على كامل مساحة البلدة تقريباً. يعملون في مختلف المجالات. كأنّك في قرية سوريّة نُقلت مِن مكانها ووضعت في البقاع الغربي. لا يخفي المجذوب تبرّمه من هذا الواقع: «لن تصادف واحداً مِن أهل غزة في الشارع، إلا بصعوبة». عدد خيم «النازحين» يبلغ 700، موزعة على أكثر مِن مخيّم، ولكن عموماً «هل يمكننا أن نقدم أكثر مِن استقبالهم والسماح لهم بالبقاء؟ هذا ما نفعله». ما لا يُحكى عنه كثيراً هو أنّ كل البلديات، في لبنان، التي تستقبل نازحين سوريين على أراضيها تستفيد مِن تقديمات الدولة، محليّاً، فضلاً عن تقديمات الأمم المتّحدة وسائر المنظمات الدوليّة، وأشياء أخرى. أمّا عن الكارثة التي حلّت أخيراً، في «مخيّم الحماصنة» غير البعيد عن مقرّ البلديّة، فيقول المجذوب: «كنّا بحاجة لطفّايات، ليس لدينا، ماذا نفعل؟ أين مفوضيّة شؤون اللاجئين مِن هذه المسألة؟ لو كان عندي طفّايات لكنت أخمدت النار. عموماً أنا تدخلت منذ الدقائق الأولى، وشاهدت بعيني كلّ شيء وسمعت استغاثات الأطفال، ولولا عمل البلديّة لكان عدد القتلى لا يقل عن مئة، إنّما الحمد لله أنّها انقضت بثمانية فقط».







عودة، لا عودة

وسط المخيّم الذي يُبنى مِن جديد، يظهر هيثم النيش، الرجل الستيني، حاملاً عكّازه وصارخاً: «كان عندي عمارتين بحمص، هلق عم بشحد الخيمة، بصير هيك مِن الله!». يُريد أن يسمع الصحافيّون الزوار هذه الكلمات. يقترب مِنّا أكثر: «عندي 6 أولاد. 2 منهم أخذوا لجوء على أميركا، أما الأربعة الباقيين فهربانين ما بعرف وين. احترق عنّا كل شي. شوف، أنا الأعرج، عم بشتغل بإيدي لعمّر البرّاكيّة (الخيمة) بعد ما احترقت. أوصلوا صوتنا للأمم ولكل العالم». هل تعود إلى حمص لو أتيح لك: «إيه، هلق برجع، رغم إني أكلت أتل بحمص، مِن فرع المخابرات، عن مية سنة لقدام... كلّه عشان ابني كان مع الجيش الحر، طيب أنا شو خصني؟ ابني راشد عمره أكثر مِن 30 سنة، أنا شو خصني؟». أحد الشبّان يسمع قوله إنّه مستعد للعودة، فيأتي إلينا قائلاً: «أنا عكسه، لا ما بدنا نرجع، ما عندي استعداد حاليّاً». هناك تيار داخل هذه المخيّمات لا يُريد إشاعة الرغبة بالعودة. كان لافتاً أن هيثم يشكو مِن دفع إيجار الأرض التي يقيم عليها خيمته: «أدفع 600 ألف ليرة سنويّاً لصاحب الأرض، كما ندفع اشتراك كهرباء، يلي منجمعه من مساعدات مندفعه إيجار سنوي». هذا الإيجار السنوي يفسر، إلى حد ما، سبب تمسّك بعض البلدات (وبعض الجمعيات) بالنازحين. كثيرون سيُصدمون إن عرفوا أن هؤلاء يدفعون إيجاراً. ليسوا كلّهم يدفعون، طبعاً، ولكن الأمر مؤشر إلى علاقة اقتصاديّة خفيّة تحكم هذا الملف، وليس ما ذكر إلا أحد أشكال الانتفاع. هيثم، رغم سنّه، ووضعه الصحي، تمّكن مِن إنقاذ أحفاده بنفسه أثناء الحريق، ما أدى إلى احتراق ثيابه قليلاً. كان شاهداً على كلّ ما جرى، وهو أحد الذين سمعوا صوت الأطفال داخل الخيم يصرخون، حيث لم ينجدهم أحد.