مع عودة فائدة «الانتربنك» إلى 4%، بعد ستة أسابيع من الارتفاع الجنوني، طُويت واحدة من أسوأ الأزمات المالية والنقدية التي مرّت على لبنان، وفُتحت صفحة جديدة عن قدرة النموذج اللبناني على الاستمرار في «مقاومة الصدمات». ليست هناك مؤشرات على «تعافي» هذا النموذج، إذ تشي حصيلة الأزمة بأن الخسائر جسيمة، وأن الضرر اللاحق ببنية هذا النموذج عصيّة على الترميم عبر الصيغة السابقة القائمة على استجلاب الدولارات من الخارج وإغرائها بالبقاء في لبنان.
مؤشّرات مقلقة

بدأت الأزمة في الرابع من تشرين الثاني الماضي واستمرّت نحو ستة أسابيع. في هذه الفترة كانت فائدة الانتربنك، أي الاقتراض بين المصارف من يوم ليوم، المؤشّر الأبرز على وجود طلب كبير على التحويل من الليرة إلى الدولار يفوق سيولة المصارف.

إذ ارتفعت في الأيام الأولى للأزمة إلى 40%، ثم إلى 70% وقفزت سريعاً نحو 120% لتستقرّ عند هذا المستوى لأكثر من ثلاثة أسابيع.
حصيلة الأزمة، كما رصدها عدد من المصرفيين، تشير إلى أن مجموع التحويلات من الليرة إلى الدولار زاد على 6 مليارات دولار (نحو 9 آلاف مليار ليرة)، أي ما يمثّل 10.8% من مجموع الودائع بالليرة والبالغة 83586 مليار ليرة في نهاية تشرين الأول 2017. كذلك تبيّن أن غالبية المصارف عانت من نقص كبير في السيولة دفعها إلى الاستدانة، بفائدة عالية جداً، من مصارف كانت تمتلك سيولة كافية. وبسبب نقص السيولة أيضاً، ارتكبت المصارف مخالفات في مراكز القطع بقيمة إجمالية تزيد على مليار دولار. فقد كان عليها تسديد ثمن شراء الدولارات من مصرف لبنان، فوراً لكنها فوجئت بعدم توافر السيولة الكافية التي استنفدت بسبب ضغط المودعين لتحويل ودائعهم إلى الدولار.

فائدة الانتربنك عادت
إلى مستوى 4% الذي
كانت عليه قبل الأزمة


نقص السيولة يعزى إلى إقراض المصارف «أكثر من 80% بالليرة اللبنانية خلال 2016 وطوال عام 2017، ما خلق فجوة في الآجال» وفق ما قاله حاكم مصرف لبنان رياض سلامة لوفد جمعية المصارف في اللقاء الشهري الذي عُقد في 21 تشرين الثاني. فجوة الآجال، تعني أن الودائع التي يضعها الزبائن لدى المصارف تُستحق على فترات قصيرة الأجل تتراوح بين شهر وثلاثة أشهر، فيما توظّف المصارف هذه الودائع في سندات خزينة وشهادات إيداع وقروض للقطاع الخاص تستحق بعد سنوات عديدة تتراوح بين خمس سنوات و30 سنة.

حَذَرْ أم هَلَعْ؟

وجود طلب على الدولار بقيمة 9 آلاف مليار ليرة يدلّ على تحوّط المودعين واستعدادهم للخطوة التالية، أي تحويل الأموال الى خارج لبنان. الخطوة الثانية هي الأكثر خطورة لأنها تعبّر عن انتقال المودعين من حالة الحذر إلى حالة الهلع التي تتغذّى على سلوك الغير وعلى الشائعات.
عند هذا الحدّ الفاصل بين الحذر والهلع، تظهر قدرة النموذج على مقاومة الصدمات. بحسب الخبراء، فإن قدرة المقاومة تبدأ بالضعف تدريجاً مع وصول قيمة التحويلات إلى 10 مليارات دولار، إذ عندها ستتلاشى حالة الحذر ويحلّ بدلاً منها الهلع الذي يضع السوق أمام المجهول. «هروب أول مليار دولار قد يأخذ وقتاً طويلاً، لكن الهلع يجعل المليارات تتطاير خلال أيام معدودة. هذا هو السيناريو الكارثي الذي بدا أن مصرف لبنان كان قلقاً من حصوله، إذ تظهر ميزانيته أنه خسر مليار دولار من أصوله بالعملات الأجنبية، أي ما يوازي 16.6% من مجموع الأموال المحوّلة إلى الدولار» بحسب خبير مالي. ويضيف أن سلوك «المركزي كان واضحاً عندما ترك أسعار فائدة الانتربنك ترتفع إلى 120% من دون أي تدخّل مباشر، وعندما ترك المصارف ترفع أسعار الفائدة إلى أكثر من 12% على الودائع بالليرة وإلى 8% على الدولار. بمعنى ما، فضّل مصرف لبنان أن تصبح الليرة غالية الثمن في السوق وأن تدفع المصارف كلفة باهظة للحصول عليها، على أن يضخّ سيولة بين يديها تُستعمل لتمويل الطلب على الدولار. كما فضّل أن يعرّض لبنان لمخاطر ارتفاع كلفة الدين العام بسبب ارتفاع أسعار الفوائد على أن يدخل مباشرة في مسار الانهيار! وهذه الخيارات ليست عادية، لا سيما أن مصرف لبنان أبلغ الأوروبيين أنه قادر على احتواء الموقف طالما أن الطلب على الدولار لم يتجاوز 12 مليار دولار». وهي خيارات تأتي بعد هندسات مالية مكلفة انتقدها صندوق النقد الدولي بوصفها بديلاً عن الخيارات الكلاسيكية التي كان يجب اللجوء إليها بعد تراكم عجز ميزان المدفوعات لخمس سنوات متتالية، إذ كان يجب رفع أسعار الفائدة في 2016، وليس شراء الوقت بهندسات مالية بكلفة مبطّنة.

هامش مناورة ضيّق

إذاً، إلى أي مدى يمكن النموذج المالي والنقدي التعافي من الأزمة السعودية الأخيرة والاستمرار في مقاومة الصدمات؟ لا أحد يملك إجابة نهائية وحاسمة. لكن يتفق عدد من الخبراء في البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي وخبراء مستقلون على أن هامش المناورة بات ضيّقاً جداً، وهو ما يمكن قراءته من النزف المتواصل في ميزان المدفوعات. «قد ينهار النموذج في أي ضربة ثانية مماثلة للضربة السعودية الاخيرة، لا سيما أن استمراريته ترتبط باستمرار نموّ الودائع المصرفية بما يكفي لتمويل حاجات لبنان من الدولارات. لكن نموّ الودائع في الأشهر التسعة الأولى من 2017 بلغ 4.4%، وهي نسبة تكاد لا تغطّي قيمة الفوائد المستحقّة على قاعدة الودائع. أي أن النموّ الصافي للودائع يقارب الصفر رغم كل الهندسات السابقة». لذا، يرى الخبراء أن الإصلاح المالي يحدّد مصير لبنان خلال السنتين المقبلتين، بالإضافة إلى الانتقال نحو الاقتصاد المنتج... إلا أنه لا يجوز الرهان على عائدات النفط كمدخل للإصلاح المالي، بل كمدخل للإصلاح الاقتصادي.




«رويترز»: مخاطر إقليمية على الليرة!

أجرت وكالة «رويترز» تحقيقاً عن المخاطر الإقليمية على سياسة تثبيت سعر صرف الليرة مقابل الدولار. الوكالة انطلقت من الأزمة الأخيرة بين لبنان والسعودية لتعيد تسليط الضوء على «هشاشة الاقتصاد اللبناني»، وأثر الأزمة على سياسة تثبيت سعر صرف الليرة مقابل الدولار.
ونقلت الوكالة عن الخبير الاستراتيجي في بنك أوف أميركا ميريل لينش، جان ميشال صليبا، قوله إن «الأزمة تقف وراءنا لفترة من الوقت، ولكن على المدى المتوسط، فإن لبنان لديه أساسيات أساسية، صعبة لأنه يحتاج إلى جذب الودائع للحفاظ على تثبيت الليرة. لقد كان لبنان يتميز بالمرونة لفترة طويلة، ولكن هذا لا يعني أن المرونة ستستمر».
وفيما رفض حاكم مصرف لبنان رياض سلامة التعليق على هذه المسألة، قال إن هناك "كلفة" لسياسة التثبيت. أما الخبير الاستراتيجي في سوسييتيه جنرال بنك ريجيس شاتلييه، فقال إن هناك احتياطات كافية (احتياطات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية)، «لكنها تتغذى عبر تحويلات المغتربين»، محذراً من أنه «إذا تدهورت الأمور في الشرق الأوسط، لا نعلم إذا كانت الأموال ستستمر بالتدفق».
ويحذّر مدير الشرق الأوسط وشمال أفريقيا للشؤون السيادية في وكالة التصنيف «فيتش» من تقويض سعر صرف الليرة بسبب صدمات سياسية تؤدي إلى خروج أموال كبيرة من لبنان.
أما المدير العام لبلوم انفست بنك، فادي عسيران، فيشير إلى أنه «على المدى الطويل، ما نقوم به ليس مستداماً لا يمكنك الاقتراض إلى الأبد. لا يمكنك إدارة عجز مالي كبير إلى الأبد».
(الأخبار)