هناك أدلّة كثيرة على وجود ورم عقاري ــ مالي مخيف في لبنان. لا يتعلق الأمر بتورّم الأسعار إلى حدّ الجنون في فترة ما بعد 2007 والتدفقات المالية الخارجية التي تخللتها فحسب، بل هي فقاعة تغذّت أيضاً على نظرية استحالة انكسار أسعار العقارات، ما خلق حافزاً للاستمرار في عمليات التشييد والمضاربات أملاً بالأرباح السهلة والسريعة، ووفّر تمويلاً مصرفياً متعدّد المستويات من تمويل شراء المساكن إلى ديون المقاولين وتجار العقارات وما يتفرّع عنهم، إضافة إلى ديون تجارية وشخصية بضمانات عقارية.
رغم ذلك، لا اعتراف بهذه الفقاعة بعد. إذ أن منظّري «النموذج» الاقتصادي اللبناني يأملون في «تنفيسها» والتخفيف من انتشار ورمها في القطاع المصرفي. ولا يزال هؤلاء يعتقدون بأن مؤتمراً بعنوان «القطاع العقاري أساس للنموّ الاقتصادي» يمكنه إخفاء حقيقة الورم ومصدره. وفي الواقع، فإن المؤتمر الذي عقد أمس، في فندق فينيسيا، لم يتطرّق إلى المشهد الفعلي في القطاع، ولم يدخل في نقاش حول حقيقة دوره كأداة لتمويل السياسات النقدية وضعف قدرته على تلبية حاجتها، بل شهد سعياً لتحويل تجار العقارات، الذين راكموا الثروات شبه المجانية، إلى «ضحايا» تجوز مساعدتهم في «محنتهم»، منعاً لانهيار إحدى ركائز النموذج الاقتصادي اللبناني. خرج هؤلاء التجّار إلى المنبر رغبة في غرف المزيد من «الدعم» من المال العام. لم يكتفوا بالإمعان في استغلال فوضى العمران وتشويه لبنان، والاستفادة من مزراب الدعم المفتوح في مصرف لبنان، بل يريدون المزيد، أي تدفيع اللبنانيين «الثمن».

التجربة الاسبانية

المعطيات التي وردت في المؤتمر كافية للدلالة على وجود الفقاعة وعلى الهدف المضمر بالغَرف من المال العام. فقد قال رئيس جمعية تجار بيروت نقولا شماس إن القطاع العقاري يعاني من «تخمة في المعروض»، موضحاً أن هناك «ملايين الأمتار المربعة غير المباعة في بيروت». وأشار إلى أن لبنان «لم يتعلم من تجارب دول أخرى. في اسبانيا تبيّن أنهم كانوا يبنون مساحات تكفي لسدّ حاجات إيطاليا وألمانيا وفرنسا، ولا يزالون اليوم يعانون من أثر هذه المشكلة. أما الأزمة العالمية التي بدأت في نهاية 2008 فبدأت عقارية في الولايات المتحدة، وتحوّلت إلى مصرفية في وول ستريت، وانتهت نقدية في أوروبا». ولفت شمّاس الى أن «سرعة دوران المخزون العقاري في لبنان تزيد على ألف يوم فيما هي في الولايات المتحدة 100 يوم. الوضع في لبنان أخطر نظراً الى انكشاف المصارف على القطاع العقاري ضمن ثلاثة مستويات: قروض السكن، قروض المقاولين والمتعهدين وفروعهم، وقروض أخرى بضمانات عقارية».
كلام شماس استند إلى تقرير لصندوق النقد الدولي عن حجم الانكشاف المصرفي على القطاع العقاري، وتضمن معطيات عن وجود ديون عقارية توازي 90% من مجمل محفظة القروض. وأوضح أن هناك «أموالاً طائلة محبوسة في القطاع، لا بل عشرات المليارات من الدولارات التي يجب العمل على تسييلها وضخها في الاقتصاد». ليخلص إلى أنه يجب أن تكون هناك «حوافز» متعددة الجهات بهدف «ضخّ السيولة في القطاع العقاري وإعادة النظر في بعض تعاميم مصرف لبنان لجهة تحفيز عمليات الاستحواذ على الشركات العقارية المتعثّرة». وهذا الأمر، في رأيه، يعالج أزمة مخزون الشقق غير المباعة ويفرج عن «المليارات المسجونة».
كلام رئيس غرفة التجارة والصناعة والزراعة في بيروت محمد شقير وجبل لبنان صبّ في السياق نفسه، إذ طالب بـ «سياسة تحفيزية أبرز ركائزها إعفاء اللبنانيين المغتربين من رسوم التسجيل لمدة سنتين، وإعطاء الاجانب الراغبين بشراء شقق فخمة يفوق سعرها المليون دولار إقامة دائمة في لبنان، وحصر إجراء التخمين العقاري بجهة واحدة مع اعتماد معايير موحدة وواضحة». وأوضح أن هذه الاقتراحات «ستسلّم قريباً إلى الرئيس سعد الحريري للعمل على تحقيقها مع غيرها من المطالب لأن وضع القطاع لا يتحمل المزيد من التأجيل».

الورم الخطير

تأتي هذه المطالب في عزّ الصراع «الخفي» بين تجار العقارات والمصارف حول توزيع أعباء الديون العقارية بينهما. الأمر أبعد من بضعة متحدثين في قاعة فندقية يكرّرون عبارات مدح الذات. فقد لجأ التجّار إلى مؤتمر للترويج لفكرة التحفيز والدعم من خلال تقديم توصيف للأزمة كان مرفوضاً منهم، بعدما وصل الورم إلى مرحلة خطيرة بسبب ركود المبيعات وتراجع الأسعار.

فشلت إجراءات مصرف
لبنان في تنفيس الورم
العقاري ــ المالي


ولم تفلح محاولات تحفيز المبيعات التي قام بها مصرف لبنان في تنفيس الورم، بل زاد الأمر صعوبة مع تقدّم الوقت، وهو ما دفع «المركزي» إلى القيام بمبادرات لتحفيز المبيعات بعيداً عن تحفيز القدرة الشرائية، عبر منح المصارف إعفاءات وحوافز مقابل تقديم قروض سكنية مدعومة، واقرار إجراءات لمعالجة أزمة الديون العقارية لم تفض إلى نتيجة. فحتى الآن لم يبدأ التطبيق الفعلي للتعميم الأساسي رقم 135 الصادر في تشرين الأول 2015 والذي يتيح إعادة هيكلة القروض وإطفاء قيمتها الكاملة أو جزئياً، بقيمة العقارات والمساهمات وحصص الشراكة مقابل حصول المصارف على حسم 50% من السندات لأجل التي تحملها لدى مصرف لبنان. وفي تموز الماضي تمنّى حاكم مصرف لبنان رياض سلامة على إدارات المصارف اللجوء إلى تملك العقارات، عارضاً عليها تمديد مهلة تصفيتها من 5 سنوات إلى 15 سنة. لكن محاولات «الإغراء» فشلت حتى الآن رغم وجود مفاوضات بين بعض التجار والمصارف الدائنة لم تصل إلى نتيجة محسومة بعد.
الأمر نفسه ينطبق على التعميم 427 الذي يستثني المصارف من الحظر المفروض عليها لتنفيذ عمليات السمسرة العقارية أو تمويل المضاربة العقارية أو عمليات شراء عقارات مبنية بهدف إعادة بيعها. التعميم يعدّل المادة الثالثة من القرار 7776 ليتيح للمصارف والمؤسسات العقارية «إنشاء شركات عقارية يكون موضوعها محصوراً بشراء عقارات مبنية في لبنان أو أقسام فيها مفرزة أو قيد الإفراز، على أن تكون ممولة بتسهيلات مصرفية قائمة ولا تقل عن 50% من قيمة العقارات المنوي تملكها». ومن شروط هذا التعديل «وجوب تسييل العقارات المتملكة خلال فترة زمنية لا تتعدى 10 سنوات من تاريخها» على أن تسدّد الشركات العقارية ثمن العقارات المتملكة على النحو الآتي: 40% من أموالها الخاصة، 60% من التسهيلات المصرفية».

الوحش العقاري

واللافت أن المتحدثين الرئيسيين في المؤتمر أغفلوا، عمداً، الحديث عن الأسعار التي انهارت في الفترة الأخيرة رغم غرور التجار وتفاخرهم بقدراتهم المالية الكبيرة. هذه القدرات تضاءلت على مدى السنوات الماضية حين بدأت الفوائد المصرفية تأكل الارباح المرتقبة من المشاريع العمرانية. لذا، فالهمّ اليوم لدى التجار أن تكون الأسعار المعلنة والرائجة في مستويات مرتفعة للانقضاض على أي فرصة قد تظهر في ظل ظروف سياسية ما، غافلين عن الاسعار العادلة التي تحتسب بالاستناد إلى علاقة العقارات بمستويات الدخل. وكل ذلك بهدف ترك الأسعار «المكسورة» بعيداً عن العلنية.
إذاً، محاولات «تنفيس» الفقاعة لم تحقق أي نجاح، ما يترك الأبواب مفتوحة أمام انكسار الأسعار أكثر فأكثر، وربما وصولاً إلى انفجار يعبّر عن تصحيحٍ ما في مسار القطاع وهيكليته وارتباطه بالمصارف وعلاقة مصرف لبنان به وبمستويات الدخل... إلا أن كل ذلك لا يصلح التشوّه العمراني الذي انتشر خلال السنوات الماضية وترك المدن والقرى فريسة الوحش العقاري. شماس يعتقد ان الوقت حان «للانكباب على التنظيم المدني بعد فوضى عمرانية في كل المناطق. يجب إعادة الجمالية والهندسة والعمارة إلى لبنان. نأسف لما أصاب لبنان من بشاعة عمرانية. يجب إقرار سياسة إسكانية للمواءمة بين المدن والقرى على مساحة لبنان وبهدف تكريس تناغم عمراني يراعي مكان السكن بعد ما شهدناه من ديموغرافيا فتاكة».




قطاع مكلف

يقول رئيس جمعية تجار بيروت نقولا شماس إن قطاع العقارات والبناء في لبنان يمثّل بين 35% و40% من الاصول الملموسة. ويستند شماس إلى دراسة أجراها «كريدي سويس» تشير إلى أن قيمة الممتلكات غير المنقولة في لبنان تفوق قيمة الممتلكات المنقولة. «أهمية هذا الأمر أنه في الأيام الجيدة يشكّل القطاع العقاري رافعة للاقتصاد، إلا أنه في أوقات الأزمات فإن هذه الرافعة التمويلية تكبّد الاقتصاد أعباء كبيرة».




الشقق الراكدة

كرّر رئيس غرفة التجارة والصناعة والزراعة في بيروت وجبل لبنان محمد شقير كلامه السابق عن تراجع عدد الشقق المبنية من نحو 28 ألف شقة سنوياً إلى نحو 16 ألفاً، مشيراً إلى وجود أكثر من 4000 شقة فخمة في حالة جمود قيمتها تفوق الـ4 مليارات دولار، فضلا عن ان ديون المصارف لهذا القطاع فاقت الـ18 مليار دولار (ديون المقاولين وما يتفرع عنهم وديون الأسر).