يُقال إن أكبر مكتبة شخصية في بيروت هي مكتبة رضوان السيد. ويُقال أيضاً إن ليس فيها كتاباً واحداً لم يقرأه. تقريباً هذه هي صورته التي يصعب إخراجه منها. ولكن الرجل لم يكن طوباوياً في حياتهِ، ولم يترك أبحاثه تنتزع منه شغفاً قديماً بأن يلعب دوراً في الحاضر. أن لا يبقى متفرجاً. علاقته بالرئيس الراحل رفيق الحريري لا تخفى على أحد. أراده الحريري مفتياً، لكن المسؤولين السوريين عن إدارة الملف اللبناني، رفضوا رفضاً قاطعاً، لأنهم كانوا يعرفون رأيه بالنظام في سوريا. وهذا قبل 2011 بكثير.
رغم ذلك «اخترع» له الحريري دوراً حيوياً: «الهمس» في أذن المفتي. لسنوات طويلة تمرّن رضوان السيد على أن يكون «عرّاباً». الرجل الأول في المشهد، في ظِل المشهد. وفي ظِل الحريري نفسه. كان شائعاً أيضاً أنه تنافس مع آخرين على كتابة خطابات الحريري، ومن بينهم، باسم السبع، الذي شاركه وجهة نظره أخيراً، في «عدم جدوى» التسوية التي أرادها سعد الحريري مع حزب الله ومع الرئيس ميشال عون. خرج السبع من المشهد وعاد إلى صف الرئيس المحتجز في السعودية. لكن رضوان السيد لم يعُد. يريد دوراً أكبر.
قد يُسمى «مثقف السُلطة». وهذه تسمية متسرعة لا تراعي تعقيدات الحالة اللبنانية. والأهم أنها تسمية لا تأخذ بعين الاعتبار الحقل الأساسي في ثقافة السيد، أي الإسلاميات، وموقع السُلطة والثقافة في المجتمع داخل هذا الحقل تحديداً. ولا يصلح أي شيء مدخلاً لقراءة دور السيد في المشهد أخيراً أكثر من هذا الموقع. الرجل ليس مجرد منظّر. لقد شارك في ترتيب زيارة البطريرك بشارة الراعي الأخيرة إلى الرياض. وهي زيارة أزعجت الفاتيكان. السيد هو الذي اقترح الفِكرة على السعوديين، إلى جانب فارس سعيد، الذي افتقدت تصريحاته التلفزيونية، أو على «تويتر»، إلى منظّر جدّي، بعد رحيل سمير فرنجية. يُحكى أيضاً، أنه، خلف الستائر، يتفق سعيد ورضوان السيّد على إيلاء مسألة «التطبيع» مساحةً أكبر في النقاش. فارس سعيد لديه الأفكار. أما المسوغات، وفي الراهن، فلا يمكن إيجادها وتسويقها إلا من شخصٍ بمقام رضوان السيد. بيد أنه ينشط أكثر في مسائل بدأها باحثاً، وانتهى فيها «رأس حربة» في الصراع مع إيران. رجل إلى يمين فؤاد السنيورة.
رغبته بالسياسة ملحة وتزداد إلحاحاً. وربما يأتي حبّه للسياسة من حبّه للتاريخ. كل من يكتب عنهم سياسيون بنحوٍ أو بآخر. يريد مكاناً في السياسة ليحجز مكاناً أوضح في التاريخ. والذين يعرفونه جيداً، يعرفون «نقمته» على «الزعامة» السنية التقليدية. في أيام رشيد كرامي، كان يقال له «طرفي» أو من «الطَرفيين»، أي من أبناء القرى البعيدة. كانت الزعامات محصورة بالمركز، وكانت ترشيش البعيدة تجعل «الاعتراف» بهِ مستحيلاً من «وجاهات» السُنة، كصائب سلام مثلاً. كانت نظرة ميشال شيحا إلى الأطراف منهجاً حتى للزعامات السُنية. بجهده الكبير وميله إلى المعرفة، تجاوز رضوان السيد هذه «الوجاهات» بأشواط. علي شلق والد الفضل شلق أعجب به، وهناك بدأ عمله المثمر في مجلة «الاجتهاد». في الحقبة الحريرية أطلق عليه لقب «مولانا». وهو بمثابة «اعتراف» بموقعٍ لطالما أراده السيد في الوسط السني اللبناني. صحيح أن رضوان السيد كمفكر تجاوز لبنان بكثير، إلى الحالة الاسلامية عموماً، لكنه بقي لبنانوياً في السياسة، على نحوٍ يثير دهشة عارفيه، وطلابه المأخوذين بسِعة معرفته. رغم كل شيء، رضوان السيد، يعتبر شخصاً مقصوداً من باحثين أتراك، رغم موقفه المعروف والسلبي من مدرسة الإخوان المسلمين. ورغم أن صراعات الوهابية والعثمانيين، وصراعات الإخوان المسلمين والوهابية، تحتل مكاناً وافراً في الذاكرة. في أعقاب مؤتمر اسلامي في اسطنبول مطلع العقد الحالي، كتب السيد نصاً في «الشرق الأوسط» دافع فيه منهجياً عن إبن تيمية. يصعب مقارعته كباحث. ولكن عندما يعود إلى السياسة، وبمراجعة بعض مقالاته الأخيرة، يتضح أنه يستخدم مفردات لا تستند إلى منهج. السياسة لا تحتاج إلى منهج. وبعد 2010، عندما صار يتطرق إلى حزب الله كحالة «مهدوية» في الحساب الإيراني، لا يقارب السيد منهجياً، إنما يختار أن يُنزل القراءة إلى مصاف سياسيوي لبناني تقليدي، فيستذكر أحداث ما بعد اغتيال الرئيس الحريري، متوقعاً أن يستمر «انشلال» النظام في لبنان «بسبب التدخل الإيراني من خلال الحزب إلى سنوات قادمة». وطبعاً، يحتاج تفسير النظام اللبناني إلى أدوات منهجية أكثر اتساعاً بكثير، خاصةً وأن قراءة رضوان السيد للحزب هي قراءة من الخارج وليس من الداخل، أي أنه يرى الحزب كنتاج لسياقات خمينية، ويغفل جوانب كثيرة من نشأته ومكوناته الداخلية وعلاقتها بالنظام اللبناني.
تدريجياً، بدأ رضوان السيد يخرج من صورته. صورة الباحث الذي يقرأ بهدوء، ويحمي حِدة مواقفه بالتاريخ والمنهج. خرج من الإطار الذي تستقيم فيه الصورة، وترك فراغاً يصعب ملؤه، محاولاً أن يملأ فراغاً آخر، أصغر منه بكثير، صورة يجب أن تكون معدّة في الأساس لآخرين. نتحدث عن الصورة التي تجمع فؤاد السنيورة برضوان السيد. إنها فضفاضة على الأول، وهذا ليس مهماً. المهم أنها ضيّقة على رضوان السيد، وأنها تضيق بهِ أكثر وأكثر. وفي لحظة «الحقيقة» قد يصير الفصل صعباً بين رضوان السيد المفكّر، ورضوان السيّد «عرّاب» تيار المستقبل الجديد. المقرّبون من الرئيس سعد الحريري لديهم قناعة راسخة بأن رضوان السيد هو الذي كتب خطاب استقالة الحريري الذي تسلمه وألقاه في الرياض قبل أسبوعين. وفي كتبهِ ومقالاته يحذّر الرجل منذ سنتين من «الاختراق الدعوي» للسُنة، ويتحدث عن دور كبير «تبذله جهات إيرانية دينية رسمية في نشر المذهب الشيعي في عددٍ من البلدان العربية». وإن كان حسه المنهجي والأكاديمي يدفعه للتعقيب بأن «الشواهد على أمر كهذا ما زالت محدودة وغير كافية لاعتباره ظاهرة تقوم وتشرف عليها الجمهورية في إيران»، فإن البُعد السياسي في مسألة «الاختراق الدعوي»، يتجاوز الأبعاد الأخرى. لا يخفي رضوان السيد ذلك، بل يسأل نفسه في آخر كتابهِ «كيف يمكن ردع النفوذ الإيراني؟». ولا يُقرأ السؤال إلا كخلاصة لما سبقه. ذلك طبعاً لا يلغي إعجابه الكبير بالحضارة الفارسية، وبأنه لا يُغفِل سنوات «الود» بين العرب والإيرانيين، خاصةً حين يستعير في مقدمة أحد فصول كتابه بيتاً من قصيدة حافظ الشيرازي، يقول فيه: «ألا أيها الساقي أدِر كأساً وناوِلها...».




العلاقة مع خاتمي

في مقدمة كتابه العرب والإيرانيون، والعلاقات العربية ــ الإيرانية في الزمن الحاضر (2014)، لا يتخلى رضوان السيد عن المنهج. أحياناً يكتب كما لو أنه يعترف: «كنّا جميعاً نضع آمالاً عِراضاً على كاهل محمد خاتمي وعهده، لأنه شجع الانفتاح على العرب والأتراك من جهة، ولأنه أراد المصالحة مع الغرب، ولأنه أولاً وآخراً أراد إحلال ديموقراطية المشاركة بالداخل الإيراني». وعلاقته بالرئيس محمد خاتمي أكبر من كتاب. خلال زيارة الرئيس رفيق الحريري للقاء خاتمي، كان رضوان السيد ضمن الوفد المرافق. هناك في طهران عانقه خاتمي بحرارة، كما في الأيام الخوالي، عندما درسا معاً في هامبورغ. حتى أن جلسةً خاصة جمعته بالرئيس الإيراني المنتخب، أثارت «حفيظة» الحريري. وما تحدث به خاتمي والسيد في تلك الجلسة المغلقة، تحدثا به على «منهج هامبورغ»، الذي لا يعرفه الحريري. في السياسة، لا يخفي رضوان السيد تعويله السابق على «خاتمية» حدود تأثيرها غير واضحة. فهو يقول في منتصف التسعينيات إن «المجال العام الذي يغص اليوم لدى العرب والإيرانيين بالحركية والتغيير باتجاه التوسيع، وفتح الآفاق، واستشراف المصالح، والتطلع إلى المستقبل، مؤار يبشّر بمفاهيم جديدة للتنظيمات المدنية والدولة والمجتمع السياسي، عند العرب والإيرانيين على حد سواء». لكنه في كتابه الصادر في 2014، يوضح أنه لم يكن راغباً بالتلطيف أو في «اختراع الأمل»، بل كان يعوّل على وصول محمد خاتمي تحديداً.