لأن لبنان بلد المفارقات بامتياز، يمكن التوقف عند احتفال الاستقلال الذي كاد يلغى لأن رئيس الحكومة سعد الحريري لم يكن متأكداً من عودته إلى لبنان للمشاركة فيه، فيما غاب عنه والده رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري أكثر من مرة بذريعة السفر. ولأن وجود الحريري كان ضرورياً للاحتفال بـ 22 تشرين الثاني، فإن وجوده ضروري أيضاً لرسم مسار ما بعد الاستقالة.
إذ حين ينتهي شرب نخب الاستقلال ــ فقط عن فرنسا ــــ رغم اعتراف لبنان بدورها الأخير في معالجة أزمة الحريري، يمكن القيادات السياسية أن تنصرف إلى انتظار نتائج الاشتباك السعودي ــــ الإيراني، وموقف رئيس الحكومة المستقيل الذي يشير إلى بداية مرحلة تختلف عن مرحلة التسوية الرئاسية.
وإذا كانت الأسابيع التي تلت إعلان الاستقالة قد صوّبت على الطريقة التي جرت فيها، وحقيقة الدور السعودي وخلافات بيت الوسط، فإن عودة الحريري وإعلانه موقفه بوضوح، سيفتحان باباً جدياً ومباشراً في الأزمة السياسية الأولى في عهد الرئيس ميشال عون، لأن هذا البيان يفترض أن يضع النقاط على الحروف، في صورة غير ملتبسة، ويشكل فصلاً آخر من فصول الأزمة الطارئة.

كل ما كان يقال في التحالفات الانتخابية قبل استقالة الحريري لم يعد قائماً



ثمة مفارقتان خلصت إليهما أوساط سياسية على اطلاع على مواقف السعودية، هما أنه للمرة الأولى منذ سنوات أصبحت الطابة في ملعب حزب الله. بهذا المعنى، أصبح الحزب هو المتلقّي بعدما خسر ورقة المبادرة، لأنه كان يعيش ــــ ولا سيما في السنة الأخيرة ــــ إيقاع التهدئة الداخلية، حامياً ظهره من أي استهداف داخلي، منصرفاً إلى ساحات الحرب في سوريا والعراق. والحزب ــــ كما رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ــــ الذي أفاد من حال الاستقرار والتهدئة الداخلية، ينتظر موقف الحريري ليبني على الشيء مقتضاه، وليستطلع بهدوء المسار الجديد الذي ينتج من بيانه. علماً أن كلام الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله لم يتخطّ، في المرات الثلاث التي أطل بها، استقالة الحريري، وحصر الحديث عنها من دون الانتقال إلى مواجهة المرحلة التالية. لكن أي ورقة سيملكها الحزب إذا قدم الحريري استقالته بالسقف الذي كان عليه بيان الاستقالة من الرياض أو حتى بعبارات منمّقة أكثر؟ ولا سيما أن الخلاف مع الحريري، مهما كان سقف بيانه، سيبقى محكوماً بالحملة «التضامنية» معه، ولن يكون من السهل الانقلاب على ثلاثة أسابيع من رعاية الحزب والعهد للحريري وفريقه. وكيف سيكون واقع الساحة الداخلية، وقد اهتزت بفعل استقالة الحريري وما نتج منها، بعدما أظهرت السعودية بوضوح حقيقة مواقفها من التسوية الرئاسية ومن العهد الحالي ومن الحريري نفسه والمقربين منه؟ وعلى هذا المنحى يمكن الكلام عن مشاورات نيابية بتسمية الحريري مجدداً أو رئيس جديد موالٍ للسعودية بالحدّ الأدنى أو العكس، لأن كلاً من هذه التسميات يعكس مستوى الأزمة وإمكان الدفع بها نحو الحائط المسدود.
المفارقة الثانية هي أن القوى السياسية تعاملت مع الأزمة الحالية باعتبارها معزولة عن الواقع الإقليمي والمشهد الدولي المتعلق بتشديد الحصار على حزب الله. فالسعودية التي استكملت الانقلاب الحريري ببيان الجامعة العربية والمداولات التي جرت، إنما أيضاً استندت إلى أجواء أميركية وغربية متشددة في مقاربة وضع حزب الله. وبهذا المعنى، فإن الاتجاه الأوروبي الذي عبّرت عنه فرنسا بفصل أزمة الحريري عن مقاربة وضع حزب الله والعقوبات الأميركية عليه، يؤكد أن السعودية ماضية في المسار الذي رسمته في حصار الحزب. وهنا تقول هذه الأوساط إن لبنان الرسمي سمع من دول أوروبية بوضوح هذا الفصل بين العنوانين: معالجة وضع الحريري تختلف عن معالجة وضع حزب الله ودوره، فالعقوبات الأميركية والخليجية وما تطلبه من أوروبا في هذا المجال لا يمكن تدوير الزوايا فيه. لذا تعوّل السعودية على هذا المنحى الأميركي في استمرار مسار تؤكد أنها ماضية فيه، ولن تتراجع عنه في المدى المنظور. وهذا واقع يختلف عن مقاربة ملف إعلان استقالة الحريري وما يأتي بعدها.
وفقاً لذلك كيف يمكن الحديث عن المرحلة المقبلة؟
ثمة من يقول إن العهد الحالي لم يلتقِ بعد السعودية الجديدة، التي يقودها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، لأن رئيس الجمهورية إنما زار السعودية «القديمة»، بوجوهها التقليدية. وحين تواجها في ملف الحريري، ذهب رئيس الجمهورية إلى الحد الأقصى في استخدام لغة حادة. لكن مرحلة ما بعد استقالة الحريري رسمياً، ستعطي عون والحزب فرصة جديدة لرسم مشهد سياسي جديد، من ضمن سيناريو المواجهة مع السعودية. وستكون الانتخابات النيابية واحدة منها. وبحسب أحد السياسيين، فإن كل ما كان يقال في التحالفات الانتخابية قبل استقالة الحريري لم يعد قائماً. وكما تحشد السعودية حلفاءها لخوض الانتخابات ضد حزب الله والتيار الوطني الحر، فإن قوى 8 آذار وعلى رغم اختلافاتها في مرحلة التسوية الرئاسية والخلافات مع التيار الوطني الحر، ستجد نفسها مضطرة إلى خوض الانتخابات سوياً في مواجهة حلفاء السعودية.
لا تشي خطوات العهد حتى الآن في ملف استقالة الحريري بأنه قد يتراجع عن السقف الذي رسمه في تحديد أطر خلافه مع الرياض، وهذا ما يمكن أن يدخل البلاد في أزمة سبق له أن دخلها أكثر من مرة منذ عام 2005. الفارق الوحيد هو أن ثمة فريقاً جديداً لم يعد، بحسابات السعودية، بعيداً عن ثنائي عون وحزب الله اسمه تيار المستقبل، بشخص الحريري أو بعض المقربين منه. وما تحسمه الساعات المقبلة، هو بقاء الحريري ضمن هذه الفئة أو خروجه منها، حكومياً وانتخابياً.