ثلاثة أشياء رئيسية يجب التأكيد عليها في سياق الحديث عن مقابلة أمس. أولها، أن المقابلة، في الأساس، هي لتأكيد أن الحريري بخير. وهذا يعني أنه ليس بخير. المقابلة «الهادئة»، في ظاهرها، يستحال مشاهدتها خارج سياقها الذي بدأ قبل أسبوع. يمكن الحديث عن نبرة صوت الحريري، لتأكيد وجوده القسري في السعودية، لكن حديثاً مثل هذا «استهلاكي» أكثر من اللزوم.
باطن المقابلة «صاخب» بالقياس إلى اختلافه عن النبرة السعودية في الإعلام. ونتحدث هنا عن الاعلام حصراً، وليس عن السياسة. في الإعلام لا في السياسة، أيضاً، وفي مناسبات كثيرة، كانت نبرة الحريري مسبوغةً بالحزن، وإن كان هذه المرة أكثر من العادة. ويمكن العودة إلى مقابلات الرجل السابقة. ليس لأداء الحريري أمس أي دور «قطعي» في تثبيت فرضية احتجازه، مع ضرورة الانتباه إلى أنه لم يبتسم. وهذه ليست من عاداته. اجراء المقابلة، في الأصل، هو التأكيد لفرضية وجود «قسري»، التي لم تكن لتنفى إلا بتسليم الاستقالة إلى رئيس الجمهورية، وبعرض الحلقة في بيروت، من دون أن يمنع فريق «انترفيوز» من السفر مع بولا يعقوبيان على متن الطائرة السعودية الخاصة إلى الرياض. ودعنا هنا من «نكتة» الأسباب «اللوجستية».
ثانياً، المقابلة نقلت مباشرةً على الهواء. وبولا يعقوبيان تحدثت عن الهزة الأرضية في العراق، وعن الرجل الذي ظهر فجأة في «الكادر»، للتأكيد على أنها مباشرة. يجب الانتباه هنا إلى حاجة المقابلة، ومن هم خلفها، للتأكيد على أنها مباشرة. وهذا، ليس لسببٍ مهني صرف، إنما لتفادي «أخطاء» فاضحة، في «اخراج» الحوار، لكي لا يكون اخراجه يشبه «اخراج» الاستقالة، على نحوٍ فاشل إعلامياً. وهذا لا علاقة له باللهجة عندما يتحدث في السياسة، وعن الرسائل التي يرسلها في هذا الإطار. هذا ليس موضوعنا. ثالثاً، الأسئلة التي سألتها بولا يعقوبيان هي الأسئلة التي يسألها اللبنانيون. وهي التي تحتاج إلى أجوبة. بالمعنى «المهني» للكلمة، يصعب القول إن يعقوبيان «تلقت ورقة أسئلة»، أو أن المقابلة «مرتبة» سلفاً، تماماً مثل ما يصعب التصديق أن الحريري «فرض» وجهة نظرهِ على «وجهة» الجِهة التي دفعته إلى الإستقالة. نحن أمام «اخراج» معقول، بتكاليف أقل، بالنظر إلى النتائج الفظيعة التي نتجت عن «اخراج» استقالة الحريري، واخراجه من البلاد.
وبالنظر إلى يعقوبيان كمحاورة، في ظرف «استثنائي»، من الانصاف القول إن أداءها كان استثنائياً أيضاً. ولم يشعر أحد من المشاهدين أنها «تحت الضغط»، أو أنها تؤدي وظيفة، بل على العكس تماماً. القراءة الحيادية للمقابلة توجب الاعتراف بأنها قاطعته في أكثر من مكان، وفي أكثر من اتجاه. تعرضت لإرباك «تقني» وهذا قد يحدث في مقابلة بطابع «حساس». سألته عن اللقاء مع ولايتي، وعن حزب الله، وعن الرئيس ميشال عون. عن الانتخابات، وعن استمراره في التسوية. طبعاً، ليست هذه كل الأسئلة التي يسألها اللبنانيون. لا يوجد صحافي واحد يمكنه أن يسأل كل الأسئلة في حلقةٍ واحدة. وإن كان سؤالها «مع من تتحدث اليوم؟» خجولاً، إلا أنه كان ضرورياً أيضاً، لأن الناس تسأل عما يحدث داخل كتلة الرجل وتيارهِ في غيابهِ.
الأضواء كانت خافتة أكثر من اللزوم. ثياب الحريري أنيقة هذه المرة. يُشبِه نفسه ولا يشبِهه المكان. الاستوديو لا يشبه ستوديوهات «المستقبل»، أو «LBC»، أو «MTV». الاستوديو سعودي، وحركة الكاميرا تساير «ماينستريم» يخلو من الحِرفية. وعلى سيرة الناحية التِقنية، فإن قلة الانسجام الواضحة بين يعقوبيان والفريق السعودي الذي تولى الاخراج، تطورت أكثر من مرة إلى ارتباك. التعب قضم ملامح الحريري، ولكنه غالباً ليس سبب تلعثمه. هذا أيضاً قد يكون سياسياً. التعب على الكاميرا وحده ليس كافياً لبناء سردية عن الاختفاء. ما يسمح بذلك، هو تجاهل الحريري لسؤال عن عودة الحريري لكي يستقيل، وإصراره على أن العودة «مرتقبة»، كما لو أنه، بتجاهلهِ، يعلن أن هذا الرأي هو رأيه: «العودة». «التجاهل» هو «نقطة تحول». ما تبعه، هو اصرار الحريري على العودة، بمناسبة أو من دونها. الحديث عن إيران، وعن التدخل الإيراني، كان سيقوله الحريري، في أي مكان آخر. في أي مقابلة أخرى. اصرار الحريري على العودة هو «اللحظة» التي نجح في التقاطها، لكي يعلن موقفاً واضحاً من وجوده خارج البلاد. وهذا مدخل للعودة إلى «اخراج»، أو «تخريج» المقابلة. اللهجة هي لهجته هذه المرة، وليس فيها «بتر أيدي». الصورة، وإن كان يطفو الإرهاق على وجه صاحبها، هي صورته. لم يخرج من تهديد، ولم يصرخ. اللهجة هي لهجته، وسعد الحريري في المقابلة، هو سعد الحريري الذي نعرفه. أما الرسائل التي خلف «تغيّر» اللهجة بعد أسبوع «طويل»، فذلك مبحث آخر.