يوم أتى غازي فقيه وسكن قرية كفرجوز الجنوبية الواقعة على مشارف مدينة النبطية، غرس الأشجار على جانب الطريق، رعاها وكبُرَت كما أولاده. أهل الحيّ يذكرونها، ويذكرون عندما استفاقوا منذ ست سنوات على قطع ست عشرة شجرة دفعةً واحدة. لم يقدموا شكوى رسمية آنذاك، ومرّت القصة مرور الكرام.
منذ أيام، تجدد «القضم». عشرة أشجار جديدة «اختفت» من على الطريق العام، لأن «المول» يريد مكانها موقفاً للسيارات في الحي الذي كان دافئاً قبل أن يظهر «المول» ـــ الغول.
مطلع 2005، اشترى أحد الأثرياء قطعة الأرض التي تقع على جانب طريق عام كفر جوز ــ النبطية، في أوّل الحيّ تماماً. كانت أرضاً صخرية، ففُجِّرَت صخورها بالديناميت. «كانت هذه أول عملية مخالفة شكلت خطراً على الأبنية المجاورة وسكانها»، بحسب الجيران. اتصل السكان بالقوى الأمنية والبلدية للاطلاع على ما يجري ووقفه، فأتاهم الرّد: «من لديه اعتراض فليأت ويقدّم شكوى». لم يذهب أحد. تردد الجميع، لأنهم سمعوا أن صاحب العقار «مدعوم» من جهة نافذة في المنطقة. جُهِّزت الأرض وأُعِلنَ استثمارها في بناء مركز تجاري ضخم. ظهر «المول» بصورته الحالية قبل ثلاث سنوات. لكن المخالفات، حسب الأهالي، استمرت. لا يتوقف الأمر على قضم عشرة أشجار جديدة قبل أيام. مخالفات «المول» أكبر من ذلك. فهو مُنشأ على كل مساحة العقار، فيما يقول مهندسون إن عامل الاستثمار في المنطقة لا يتجاوز 80% من المساحة الإجمالية للعقار. إلى ذلك، للمول طبقتان تحت الأرض تُستخدَمان مواقف للسيارات. وفي هذا، أيضاً، مخالفة، بحسب المهندسين، لأن الطبقات تحت الأرض يجب أن تراعي نسبة معينة من عدد الطبقات المنشأة فوق الأرض. وهذا كله في كفة، والمولدات الكهربائية في كفة ثانية. المركز الضخم وضع المولدات الكهربائية إلى جانب المباني السكنية من دون مراعاة أي من الشروط والمعايير البيئية والقانونية.

«المول» مُنشأ على كل مساحة العقار فيما عامل الاستثمارفي المنطقة لا يتجاوز 80%

الورشة مستمرة. شاحنات تابعة لبلدية النبطية تتولى قطع الأشجار. قصدنا مركز البلدية للاطلاع على ما يجري. تجاوب الموظفون حتى عُرِفَ هدف المقابلة. وقعت كلمة «مول» كالصاعقة. حلّ الارتباك على الجميع ولم يعد يوجد أحد لإجراء المقابلة. رئيس الدائرة الإعلامية في البلدية قال إن «إجراء المقابلة يتطلب تقديم طلبٍ مسبق والموافقة عليه، بالإضافة إلى إرسال طلب رسمي من قبل الصحيفة». رئيس مصلحة الزراعة في النبطية هادي مكي، رأى أنه «لا يوجد أي مشكلة في الموضوع... كل شي في أحراج ومخالفات ما شفتوا غير كم شجرة؟». وعند سؤاله عن دور الوزارة في مسألة قطع «ست وعشرين شجرة»، كان التبرير بأنّ «صاحب المشروع يريد أن يبني موقفاً عاماً لمشروعه، فقُدِّر الضرر، وعلى أساسه أُعطي القرار بقطعها بعد الموافقة المبدئية من البلدية». إذاً وزارة الزراعة لديها تبريراتها أيضاً. الأكثر غرابة أن مكي عندما حاول إقناعنا بأن صاحب المشروع له حصة ضمن الطريق العام، ناقض ما قاله سابقاً بأن الأشجار التي قطعت هي من ضمن العقار.
لا تتوقف الأمور عند هذا الحد. لا بد من الإشارة إلى معاناة يومية لجيران «المول»: المولدات الكهربائية «مزروعة» إلى جانب المباني السكنية من دون مراعاة أيٍّ من الشروط والمعايير البيئية والقانونية. وعند اعتراض السكان، عُرِضَ عليهم إعطاؤهم اشتراكات كهربائية مجانية مقابل التوقيع على موافقة وجودها. استغلالٌ لحاجات الناس مقابل تمرير مخالفة. الجيران قايضوا الهواء الذي يتنفسونه، بالكهرباء. لماذا؟ لأنه لا كهرباء. والآن، لا أشجار. أحد السكان، الذي يقطن في الطابق الأول في المبنى الملاصق للمول، وهو أكثر المتضررين من هذا الأمر، عرض منزله للبيع.
في الأصل، يقول كثيرون، إن المركز التجاري «المزدحم» بنيَ على حساب الأسواق الشعبية والتجارية في المدينة. يقول المعترضون بيأس: أول «سوبر ماركت» داخله افتتحت برعاية وزراء وشخصيات نافذة سياسياً، فلماذا العناء؟ اللافت، أنّه عند دخول المبنى البلدي تستقبلك لوحة كبيرة عن «الخطة الاستراتيجية لعمل البلدية»، من ضمنها: «المحافظة على البيئة والصحة والسلامة العامة». الترجمة لهذه الخطة، على ما يبدو، هي «زراعة» المولدات الكهربائية، وقطع الأشجار.