منذ دهر، لم يُجمِع لبنان على التعاطف والتضامن مع شخصيّة سياسيّة مثلما هي الحال منذ أيّام مع الرئيس سعد الحريري. نقصد لبنان كاملاً، بكل أطيافه وأحزابه، وبرموزه وشخصياته السياسيّة والروحيّة، إذا استثنينا طبعاً غربان الشؤم التي تقتات الآن من مزابل الانحطاط، في هذا الزمن السبهاني البائس. منذ دهر لم يتحلّق لبنان حول زعيم سياسي، كما يتحلّق الآن حول سعد الحريري، الشخص، والمنصب، والرمز.
نقصد كل لبنان، بـ «فئاته» التي تسبق بشرعيّتها «الوطن» أحياناً، وتعتاش على مقدّرات «الدولة». هذا الـ «لبنان»، بجماعاته المتناحرة عادةً، القابعة خلف متاريس الحرب الأهليّة الدائمة، لملم أجزاءه، وتغلّب على مخاوفه، وقفز فوق أنبياء الفتنة الدجّالين، العاجزين لمرّة عن خداع الناس، وعاد وطناً موحّداً، وشعباً واحداً، ومؤسسات دستوريّة متراصّة، خلف الرئاسة الأولى، من أجل المطالبة باستعادة رئيس حكومتنا المحتجز بنذالة ووقاحة نادرتين. لبنان كلّه يتماهى اليوم مع شخص سعد الحريري. إنّها لحظة وطنيّة بإمتياز!
ليس في هذا التعاطف أي افتعال أو متاجرة بمعاناة عائلة، وحزب، و«مكوّن» (حسب أدبيات النظام الطائفي العقيم)، بل ويمكن أن نضيف: معاناة الشعب اللبناني. فما تعرّض له رئيس حكومتنا هو قبل كل شيء إهانة وطنيّة، واعتداء على السيادة، وتهديد متعمّد للسلم الأهلي. ليس في هذا التعاطف لا مناورات، ولا مزايدات. بل هو شهادة حقّ واعتراف بالجميل. فأياً كانت حدّة الخصومة السياسيّة مع رئيس الحكومة اللبناني المُستقال، وعمق الخلافات مع خياراته ونهجه، لا يستطيع أحد أن ينكر أنّ سعد الحريري أثبت في الأشهر الأخيرة أنّه رجل دولة شجاع، وجدير بالثقة… وحالة خاصة في تاريخ الجمهوريّة. مِن ابن الشهيد رفيق الحريري الذي لا يفقه شيئاً في السياسة، ويتلعثم في خطاباته، إلى زعيم مسموع لدى الخصوم، بات يتقن أصول اللعبة، وفنون الخطابة. ومِن طرف في النزاعات الأهليّة التي تسهم في خلق الفراغ الدستوري، إلى رئيس حكومة (شبه) إجماع وطنيّ، ساهمت في دعم عهد الرئيس ميشال عون وتمتينه، وإعطاء فرصة لهذا البلد المسيّج بالزلازل. سعد الحريري كان الرقم السحري في المعادلة التي بعثت الأمل، ورجل التضحيات الذي فهم درس التاريخ، واختار التسويات الشجاعة التي رسّخت الأمن، وسمحت بحد مقبول من الاستقرار السياسي والاقتصادي. الوزير جبران باسيل ذكّر بذلك يوم أمس، ومثله فعل النائب وليد جنبلاط، على طريقته، مستعيداً انتصارات الجرود. طبعاً هناك الموقف الموزون والهادئ لدار الفتوى، والموقف الشجاع والحكيم الطاغي في تيّار المستقبل. وهناك صمّام الأمان، وحصن السلم الأهلي الذي يجسّده موقف السيد حسن نصرالله. وتطول قائمة الشخصيات والقوى التي عبّرت عن رفضها المهزلة المرشّحة لأن تنقلب كابوساً…
ليس ما سبق كلاماً مثالياً، يقفز فوق مناطق مظلمة في السياسة والبزنس وعالم المال. أو يغض الطرف عن كل الاشكاليات والثغرات والمفارقات الدستوريّة والأسئلة العالقة. أو يتعامى عن ذهنيّة الصفقات التي يسمح بها، بل يقوم عليها، نظام طائفي وزبائني ومافيوي كالنظام اللبناني. لكن رحلة الألف ميل، من أجل تغييره، يمكن أن تبدأ في ظل العهد الحالي، وأوّل بوادرها قانون انتخابي أفضل بقليل من سابقه، يفتح كوّة على تجدد النخب واصلاح شرعيّة التمثيل. ما حدث السبت الماضي هو بلا شك محاولة لكسر كل هذه الانجازات، وإعادتنا الى المستنقع الآسن. عبر «اختطاف» مفتاح هذا التوازن، وارغامه ـــ بطريقة مذلّة، مهينة ـــ على أن يَهُدَّ بنفسه، أمام كاميرا رديئة، في مكتب مظلم، صرْحَ الأمل الذي كان من أبرز بُناته. وما اشارات النضج والحرص والمسؤولية والتماسك الحاسمة التي أعقبت الصدمة، لدى مختلف القوى والأحزاب والشخصيّات والمرجعيّات، إلا تمسكاً بالمنجز الأوّلي الذي ندين به لسعد الحريري، والتفافاً حول الدولة والمؤسسات والسلم الاهلي والعزّة الوطنيّة. وما الموقف الذي فاجأ به العالم رئيس الجمهوريّة ميشال عون، سوى دليل قاطع أن هناك شرعيّة قويّة في لبنان، لن تقبل بأي وصاية، وتتمسّك باسترجاع أحد الأقانيم الثلاثة للشرعيّة الدستوريّة، وقراره الحرّ.
طبعاً، نعرف جيّداً أن هذه اللحظة الورديّة قد لا تدوم طويلاً. وتقضي «الواقعيّة السياسيّة»، ودرجة الطيش والتهوّر لدى «مجنون الحكم» في الرياض، وأحابيل دراكولا الاسرائيلي من خلف الخادم الأرعن، أن نستعد لأصعب الاحتمالات. زيارة بطرك الموارنة إلى الرياض، إذا لم ترشده الحكمة الالهيّة إلى التراجع عنها سريعاً، تشبه إلى حد بعيد خيانة وطنيّة، وتوريطاً لطائفته في فخ سينقلب عليها. على نحو أسوأ من خطئه السابق، أي الزيارة التطبيعيّة بحجج واهية إلى الكيان الصهيوني. حتى الشيخ سعد، سيتطلّب منه الأمر بطولة جديدة، كي يتحرر من وصاية النظام الظلامي عندما يستعيد حريّة الحركة، ونتمنّى أن يحدث ذلك في أقرب وقت ممكن. قد تكون المعركة شائكة وطويلة، ومرتفعة الكلفة، لكنها ستقطع الطريق، مرّة نهائيّة، على كل أشكال الابتزاز والوصاية في المستقبل.
إن ما تشهده مملكة آل سعود، أقرب إلى دراما شكسبيريّة من بطولة عادل إمام، تجمع بين دسائس بلاط تراجيديّة، وكوميديا هزليّة يتفرج عليها العالم مشدوهاً! إننا نعيش نهاية الأزمنة، مرحلة ما دون الانحطاط، تلك التي بات فيها بوسع مهرّج قزم، مجرد من أي هالة إلا رائحة الموت، أعزل من أي مَلَكة، أو خلفيّة فكريّة، حضاريّة، إلا أكياس الدولار النتنة المغمّسة بالدم… أن يتحدّث بصيغة الأمر والنهي مع رجالات دولتنا، ويشتري إعلامنا. هذا القزم، يسمح لنفسه، بجمل ثلاث لا يعرف غيرها، ويجترها كببغاء خرِف، أن يملي رؤياه واستراتيجيّاته، على اللبنانيّين، قيادات وشعباً، كما لم يجرؤ أن يفعل أكثر المفوضين السامين بطشاً، على امتداد الاحتلالات والانتدابات والوصايات التي عرفها هذا البلد الصغير. ثامر السبهان يخاطبنا بسلطة الوصاية، كأنّه يمثّل دولة عظمى، مزدهرة اقتصادياً واجتماعيّاً، مستقرّة سياسيّاً، متطوّرة تكنولوجيّاً، متماسكة وطنيّاً، منتصرة عسكريّاً، متقدمة فكريّاً. يخاطبنا بفجاجة جاهليّة لا تبذل حتّى جهد التنكّر خلف ماكياج الدبلوماسيّة.
وسعد الحريري هو اليوم أسير هذه الملهاة السوداء. وبهذا المعنى هو الآن بطل وطني. اللبنانيون قلقون بعد الضربة السعودية، والأفق يبدو ملبداً بالكوارث الآتية. لكن ماذا لو قرأنا المشهد معكوساً؟ ألم يوحّد العدوان السعودي شعب اليمن؟ لبنان اليوم أمام لحظة تاريخيّة لم يشهدها منذ الاستقلال: هناك فرصة حقيقية لوحدة وطنيّة لمسنا بوادرها في الأيّام القليلة الماضية، تجمع كل القوى والمكوّنات والأحزاب في مشروع وطني. ضدّ الوصاية، ومن أجل التقدّم والدولة القويّة العادلة. هذه الفرصة قد لا تتكرر قبل أجيال. ماذا ننتظر؟