ثمّة محنة حقيقية تعصف بتيار «المُستقبل» الذي لا يعرِف الوجهة التي سيسلُكها. وضعفه يكمُن في انعدام طاقة غالبيته على الكلام، خصوصاً أولئك الذين تُبنى المؤشرات على مواقفهم، أي دائرة المقرّبين من الرئيس سعد الحريري، وصقور تسويته مع العماد ميشال عون. كذلك لا يوجد بين وزرائه، أو نوابه من الصفين الأول والثاني، وحتى الثالث، من هو قادر على رفع سقوفه ولغته.
فزعيمهم قرّر مغادرة الحكومة من دون التنسيق معهم. حتى الرئيس فؤاد السنيورة نفسه الذي اعتقد البعض بأنه سيستغلّ اللحظة لتسعير معركته السياسية مع حزب الله، حاذر فعلَ ذلك، ولم يتَح له الابتعاد خطوة واحدة عن الخطاب «المُتقَن» الذي يلتزِمه الجميع، فأكّد من على باب بعبدا أكثر من مرّة أمس أن «عودة الحريري هي الأولوية». غير أن في التيار من «انشقّ» عن هؤلاء، في أكثر لحظات تخبّط «المستقبل» تحت ضغط الخارج، واختار أن يركب الموجة السعودية. نجح الوزير السعودي ثامر السبهان في استغلال المراهقة السياسية لبعض المستقبليين، ودفعهم إلى تبنّي خطابه وترويجه. وأوعز إليهم بالمشاركة المكثفة في حلقات الحوار والمداخلات على القنوات التلفزيونية، والتأكيد أن الحريري «استقال بملء إرادته، وأنه مهدّد أمنياً».

تعليقات «السبهانيين» تردّد مساءً ما يقوله الوزير السعودي صباحاً


والمفارقة أنه في وقت ترفض فيه غالبية شخصيات المُستقبل الظهور والتعليق والتحليل، متهرّبة من أي مداخلة في الإعلام، منعاً للإحراج أو لأنها لا تملك أي معطيات، وفق ما أكد لـ«الأخبار» عاملون في أكثر من فريق عمل برنامج تلفزيوني، أخذت حلقة صغيرة في التيار على عاتقها مهمّة التحريض. على مدى أيام، أطلّ مدير الأخبار في تلفزيون المستقبل نديم قطيش من شاشة إلى شاشة، لتحويل الأنظار عن المشكلة الأساسية، وهي استدراج رئيس حكومة لبناني وإجباره على الاستقالة. يتحدّث قطيش وكأن لبنان هو المُعتدي. يحاول صاحب «غزوة السراي» تصوير المملكة وكأنها «منتجع للسياحة» يقضي فيه الحريري فترة استراحة، ويتصرف باستخفاف مع التحديات التي يواجهها لبنان نتيجة التلاعب بأمنه واستقراره. المهم أن يكون عند حسن ظنّ الوزير السعودي. وانضم النائب عقاب صقر إلى هذه الجوقة، وهو الذي «ضيّع» جمهور تيار المُستقبل أكثر ممّا طمأنه. فساعة يؤّكد أن الحريري سيعود قريباً، وساعة ينفي علمه بتوقيت العودة، من دون أن يتوقّف عن التخويف بأن البلاد على فوهة بركان. والمصادفة أن أغلب تعليقات قطيش وصقر تردِّد مساءً ما يقوله السبهان صباحاً، وإن اختلف الأسلوب. ويشارك في هذه «الجوقة» كلّ من الوزيرين معين المرعبي وجمال الجراح والنائب أحمد فتفت والنائب السابق مصطفى علوش الذي قال إن «الفترة القادمة ستكون عسكرة»، قبل أن يعلن السبهان نفسه بعد ساعات «أننا سنعامل حكومة لبنان كحكومة إعلان حرب بسبب ميليشيات حزب الله الإرهابي»، و«أن كل الخيارات، سياسية وغير سياسية، متاحة».
هذا التحريض ترفضه غالبية التيار الذي سعت كتلته النيابية خلال اجتماعها أمس إلى إعادة ضبط السقف والحدّ من «الشطحات»، خصوصاً أن فئة كبيرة من المستقبليين لا تريد أن تأخذ في صدرها هذه المواجهة: «من يرد مواجهة فليفعل ذلك على أرضه» تقول مصادر التيار. يقول أصحاب هذا الرأي: «لا يظنّن أحد في المملكة أن في لبنان من سيحمل سلاحاً في وجه حزب الله». وهذا الأمر «يسري على السياسة. فإذا لم يصعّد حزب الله ضدنا فلن نصعّد ضده». لا يدّعي هؤلاء ما ليس لهم قدرة عليه. فهم أساساً يحمّلون المملكة «سبب وصول الحريري إلى ما هو عليه. هي من تركته، وعرّته سياسياً واقتصادياً، وجاءت الآن لتحاسبه». ويعتبرون أن لبنان «أمام مفترق طرق، كلها سيّئة». فإما «أننا سنشهد تصاعداً للاشتباك العربي ــ الأميركي مع إيران، يُمكن أن يتطوّر إلى نزاع مسلّح في المنطقة ومن ضمنها لبنان، أو سنكون تحت رحمة حصار اقتصادي وسياسي». وهذا الحصار بدأ «مع عقوبات اقتصادية على الحزب، واغتيال سياسي تعرض له الرئيس الحريري من المملكة نفسها»، والمنطق يقول إن «الرياض لم ترد لخطوة الاستقالة أن تكون وحيدة».
في لبنان، لا يملك تيار المُستقبل أي معلومات للإجابة عن سؤال: «ماذا بعد الاستقالة»؟ ولا عن خريطة الطريق التي سيتبعها وزراء التيار وشخصياته وإعلاميوه. لقاء الحريري بالملك سلمان بن عبد العزيز وزيارته ولي عهد أبو ظبي زادا الحيرة. فقد تقصّدت منهما المملكة إيصال رسالة إلى المستقبليين بأن رئيسهم «ليس في إقامة جبرية، بل يفعل ما يريده هو. وما أراده هو التصعيد وعليكم أن تحذوا حذوه في لبنان». عملية الانتقال شبه القيصرية للرئيس من السلطة إلى خارجها وضعت جميع المستقبليين في وضعية الانتظار. ومع أنهم تجاوزوا حاجز رهبة ما حصل، لكنه تجاوز بقي محصوراً بالاطمئنان على شخص الحريري. ما عدا ذلك «لا شيء يستبشرون منه خيراً».