مئات من مسيحيي الأرض المحتلة عام 1948 (يحملون جوازات سفر إسرائيليّة) زاروا لبنان أخيراً. الرحلات الدينية المنظمة «سراً» لم تعد خفيّة على أحد اليوم. ويبدو أن السلطات اللبنانية والفلسطينية والإسرائيلية والأردنية اتفقت على مبدأ «غضّ الطرف» عنها.فخلال الشهور الأخيرة زار لبنان مئات من فلسطينيي الأرض المحتلة عام 48، بعضهم لأغراض ثقافية عبر دعوات من جهات تربوية أو مؤسسات فنية، أو لـ«لمّ الشمل» وزيارة الأقرباء.

أمّا «حصة الأسد»، فكانت من نصيب مسيحيين فلسطينيين يصلون بالعشرات شهرياً لزيارة الأماكن الدينية في كل من حريصا وعنايا ومغدوشة وبعلبك... وغيرها. علماً أن هؤلاء «مواطنون في إسرائيل» ويحملون جنسيتها. وهم يصلون إلى لبنان بطرق «التفافية»، عبر الحصول على جواز سفر فلسطيني من وزارة الداخلية الفلسطينية في رام الله.
ومع أن القانون الإسرائيلي يحظر السفر إلى لبنان، لكونه «دولة عدوة»، ويعاقب عليه بتهمة «التعامل مع عميل أجنبي»، حتى ولو امتلك المسافر جواز سفر ثانياً، إلا أن ما كتب على الورق لا يطبَّق دائماً على «الأرض»، خصوصاً حين التأكد «من أن هذه الزيارات لا تمسّ بأمن إسرائيل، أو تشكل خطراً عليها»، بحسب تقرير لصحيفة «هآرتس» العبريّة، أمس. التقرير تضمن مقابلات وشهادات لمشاركين في «الرحلات الدينية» إلى بيروت، وأوضح أن هذه الفكرة تبلورت عام 2014 عندما زار البابا فرنسيس يرافقه البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي فلسطين المحتلة. الأخير التقى بمسيحيين في الأرض المحتلة، وبـ«الجالية اللبنانية في إسرائيل»، أي عملاء أنطوان لحد وعائلاتهم الذين فروا مع جيش الاحتلال عام 2000، وزار عدداً من الكنائس في الجليل. لكن الزيارة الأهم كانت لرام الله للقاء رئيس السلطة محمود عباس، حيث بحث معه، وفق الصحيفة العبرية، «مسألة الزيارات الدينية (الحج المسيحي إلى لبنان)، ومشكلة القانون الإسرائيلي واللبناني في هذا الشأن، وطلب من أبو مازن التدخل، عبر تسهيل داخليته استصدار جوازات سفر فلسطينية» للراغبين في الحج.
هكذا بدأت الرحلات، وصار الراغبون في الحج يسجّلون أسماءهم لدى رجل دين مسيحي من الجليل (لم يُكشف عن هويته)، ينقل قائمة الأسماء للداخلية الفلسطينية. وبعد استصدار جوازات السفر، يدفع كل راغب بالزيارة 1800 دولار أميركي لتغطية كلفة الحافلة التي تقل الزوّار من معبر الشيخ حسين الحدودي بين الأردن وفلسطين المحتلة إلى عمان، والمبيت ليلتين في العاصمة الأردنية، وتذكرة الذهاب والإياب من مطار الملكة علياء إلى بيروت، وبالعكس.

أشارت «هآرتس»
إلى أن هناك من يرغب في لبنان بالتطبيع
مع إسرائيل من باب «الحج الديني»


ونقلت الصحيفة شهادات لزوّار قالوا إنهم ممتنون جداً لكون زيارتهم للبنان «تعتبر حلماً يتحقق مرةً في العمر». بالإضافة إلى أنهم يعتبرون «لبنان بلداً جميلاً من حيث المناظر الطبيعية التي شاهدوها، ومن حيث الروحانية التي تركت أثراً بالغاً في نفوسهم. لكونهم طالما سمعوا، في السابق، عن عجائب مار شربل، المزار الموجود في منطقة محرمة عليهم قانونياً... لكنهم الآن قد زاروه وتباركوا منه». وأبلغ هؤلاء الصحيفة أنهم تلقوا تعليمات من المنظمين بـ«إظهار جواز السفر الفلسطيني فقط لدى الوصول إلى مطار رفيق الحريري، والتعريف عن أنفسهم بأنهم فلسطينيون من الأرض المقدسة وليسوا إسرائيليين، والحذر من استخدام أي كلمات بالعبرية، وعدم التحدث إلى أي لبناني قد يصادفونه في المزارات أو في أي مكان آخر»، علماً أنهم في العادة يبيتون خلال إقامتهم في لبنان في مساكن تابعة للبطريركية المارونية.
أحد رجال الدين المسيحيين من منظمي هذه الرحلات، قال للصحيفة إن «الزيارات لا تجري بالسر أو من تحت الطاولة، بل هي مكشوفة... وآمل أن لا يكون لذلك أي تبعات أمنية أو سياسية. فهذه زيارات دينية فقط، تماماً كما يحجّ المسلمون (من فلسطينيي الـ48) إلى مكة بجوازات سفر أردنية مؤقتة... نحن بدأنا رحلاتنا بزيارة المقدسات المسيحية في لبنان، وهكذا سنستمر مستقبلاً».
والواضح من الشهادات أن عناصر الأمن الإسرائيليين لا يتعرضون لأي فلسطيني من الأراضي المحتلة وهو في طريق خروجه من المعبر الحدودي مع الأردن. الحالات الاستثنائية التي جرى فيها السؤال كانت من قبل عناصر الأمن الأردنيين، وأحياناً الإسرائيليين، ولكن من دون اتخاذ أي إجراءات قانونية بحق العائدين من لبنان. أمّا في لبنان، فإن رجل الدين المسؤول عن تنظيم الرحلة يتكفل بمتابعة أدق التفاصيل لدى الوصول إلى مطار رفيق الحريري الدولي.
مصدر فلسطيني مطلع أكد لـ«هآرتس» هذه الشهادات، مشيراً إلى أنه «لدى عودة الزوار إلى فلسطين المحتلة، يعيدون جوازات السفر إلى السلطة الفلسطينية».
«هآرتس» أشارت إلى أن إحدى الزيارات أثارت عاصفة إعلامية احتجاجاً على السماح «لإسرائيليين بزيارة لبنان». ولفتت إلى أنه «... إثر ذلك (الزوبعة الإعلامية) علت أصوات من داخل لبنان تطالب بحج المسلمين والمسيحيين العرب إلى الأراضي المقدّسة في القدس، والمهد في بيت لحم». الكلام إذاً ليس عابراً، بل أراد به مُعدّ التقرير التشديد على أن هناك من يرغب في لبنان بالتطبيع مع إسرائيل، تحت ذريعة دينية هي «الحج إلى فلسطين المحتلة»، خصوصاً أن مؤتمراً أقيم لهذا المشروع المشبوه في فندق «لو غبريال» في الأشرفية قبل أشهر، وقاده النائب السابق فارس سعيد، في وقت تتسابق فيه دول «الاعتدال العربي» بقيادة السعودية، لنيل «البطولة» في «ماراثون تطبيع العلاقات مع إسرائيل».
الصحيفة الإسرائيلية نقلت عن شخص وصفته بأنه «مصدر لبناني مطلع على الموضوع» قوله إن «المسألة حساسة، فمن جهة يعاقب لبنان مواطنيه على زيارة فلسطين المحتلة، ومن جهة أخرى لا يريد منع هذه الزيارات». وأضاف: «لبنان بلد مركب جداً. فالمسألة الطائفية تلعب دوراً في كل القرارات. وهنا يجري الحديث عن صيغة تُعالجها البطريركية المارونية، وهي جهة نافذة جداً في البلد». وختم: «ما دامت الزيارات دينية، فلن يتعرض لها أحد، خصوصاً أنها تدرّ ربحاً اقتصادياً على لبنان».
بطبيعة الحال، لن يعترض أحد على زيارة أقلية فلسطينية احتلت أرضها العربية، وبات أصحابها من مسيحيين ومسلمين ودروز، بموجب هذا الاحتلال، مواطنين إسرائيليين. فمن حق هؤلاء زيارة لبنان، لكونه بلداً ذا امتداد تاريخي وثقافي وحضاري لفلسطين المحتلة. وليس من حق أحد أن يمنع التواصل مع امتدادهم هذا، الذي لولا سايكس ــ بيكو لربما كان الجليل جزءاً من لبنان، أو جبل عامل جزءاً من فلسطين الانتدابية... لكن على أيّة حال لا بد من سؤالين: الأول: من يضمن أن لا يكون بين هؤلاء عملاء، وفي مقدمهم «أيتام» أنطوان لحد؟ والثاني: هل نشهد مستقبلاً حركة «تبادل ديني» بين لبنان وإسرائيل؟ أقله أنّ إقامة زياد دويري «الممتعة» في كيان العدو، شاهدة على أن بعض الخطايا فضائل في منطق هذا البلد!