«إعادة تدوير» اتفاق الطائف الذي لم يُنفّذ أهم بنوده في العقود الثلاثة الماضية تبدو «انتقائيّة». ففي ظلّ إهمالٍ تام لأهم إصلاحاته السياسية، أي إلغاء الطائفية السياسية، تندفع القوى السياسية نحو تطبيق اللامركزيّة الإدارية الموسّعة تحت عنوان «الإنماء المتوازن»، مع تقاسم الطوائف، بشكل كامل وعلني، لما تبقى من هيكل الدولة المركزية، الهزيلة أصلاً. يأتي ذلك بالتزامن مع طفرة الحديث عن «الإدارات المحليّة» في سوريا والعراق وفلسطين والأردن، واندفاعة عشرات من منظّمات ما يسمّى بـ«المجتمع المدني» في لبنان لتسويق هذه العناوين وغيرها. وهذا العنوان بالذات، في حالة لبنان، يعيد تدوير تأثير القوى الطائفية، بحلّة وأدوات جديدة، مع استمرار المحاصصة في جسد المؤسسات المركزية.
اللامركزية الإدارية الموسّعة وردت في اتفاق الطائف تحت عنوان «الإصلاحات الأخرى» في البند الثالث من الباب الثاني (الإصلاحات السياسية)، كحلّ وسط بين المطالبين بالفيديرالية (القوات اللبنانية واليمين اللبناني وقتها) وبين رافضي التقسيم (القوى الوطنية)، بعد سنوات من الحرب الطويلة بين المشروعين. علماً أن النظام اللبناني، أصلاً، ليس مركزياً تماماً، بل تُعتبر البلديات الإدارة اللامركزية الأولى، تليها اتحادات البلديات التي تفرّخ منذ سنوات من دون اعتماد معيار واضح للحاجات التنموية.
وفي هذا السياق، تناقش اللجنة النيابية المنبثقة عن اللجان المشتركة، هذه الأيام، مشروع قانون اللامركزية الذي أنجزته اللجنة التي ترأسها الوزير السابق زياد بارود في عهد الرئيس السابق ميشال سليمان، كجزء من نتائج جلسات الحوار الوطني.

ملامح القانون

يركّز أصحاب المشروع على أن اللامركزية الإدارية هي نظام منفصل عن الفيديرالية أو أي شكلٍ جديد من أنظم الحكم «التقسيمية» في حالة لبنان، ويختصر الحاجة إلى اللامركزية الإدارية، أو عناصر اللامركزية الإدارية الموسّعة، بثلاثة عناوين: المشاركة الديموقراطية (إشراك المواطنين في إنماء مناطقهم)، الفعالية (الإنمائية)، والنزاهة. إلّا أن القانون، بدا حاسماً لجهة أن «الدولة المركزية الضعيفة لا تقوم بلا مركزية صحيحة».
يتألف مشروع القانون من 147 مادّة، ويقارب «اللامركزية بأبعادها الإصلاحية عبر آليات تطبيقية وبنى هيكلية تعتمد الانتخاب قاعدةً، والاستقلالين المالي والإداري وسيلةً... ويحافظ المشروع على صلاحيات البلديات» (كتيب مشروع قانون اللامركزية الإدارية 2014)، إلّا في حالة مدينة بيروت، التي يتمّ فيها حلّ المجلس البلدي فور انتخاب «مجلس مدينة بيروت».
منذ أشهر، أكبّ أعضاء اللجنة النيابية (ممثّلو القوى السياسية) على العمل على مشروع القانون بنداً بنداً، بعد الاتفاق على تأجيل النّقاش في النقاط الخلافية. وهم نجحوا حتى الآن في الاتفاق على ما يزيد على 45 بنداً (من البند 1 حتى 35، ومن 54 حتى 64) وإدخال التعديلات المطلوبة عليها.
في عناوينه العريضة، يعتمد مشروع القانون القضاء كـ«وحدة لامركزية» تتمتّع «بالشخصية المعنوية والاستقلالين المالي والإداري»، على أن يُنتخب في كلّ قضاء مجلس للقضاء بـ«صلاحيات واسعة». وقد أخذ ذلك كثيراً من الجدل. إذ أن «إعادة النظر في التقسيم الإداري» وردت في اتفاق الطائف «بما يؤمن الانصهار الوطني وضمن الحفاظ على العيش المشترك ووحدة الأرض والشعب والمؤسسات». إلّا أن لجنة بارود اعتمدت تقسيمات لأقضية جديدة في المحافظات الجديدة، لا سيّما عكار والبقاع الشمالي، «تتكوّن غالبيتها من لون طائفي أو مذهبي معيّن»، كما يقول أكثر من نائب من أعضاء اللجنة. وعلى هذا الأساس، «هربت» اللجنة من إعادة البحث في التقسيمات الإدارية، واعتمدت التقسيمات الحاليّة كوحدات لامركزية تنشأ فيها مجالس الأقضية.

مجالس الأقضية: دورها وصلاحياتها

تبدأ عملية تشكيل مجالس الأقضية من انتخاب «الهيئة العامة للقضاء» بالاقتراع المباشر في كلّ بلدة أو مدينة ضمن القضاء. وينبثق مجلس القضاء عن الهيئة العامة انتخاباً. وبحسب جداول يظهرها مشروع القانون، فإن كل 5000 شخص وما دون مسجلين في بلدة واحدة، يمثّلهم ممثل واحد في الهيئة، ولكلّ 5001 إلى 10000 شخص ممثلان، ثمّ يضاف ممثّل عن كلّ عشرة آلاف شخص آخرين. ولأن عدد المسّجلين في 84% من القرى والوحدات في لبنان أقل من خمسة آلاف شخص، وحتى لا تسيطر المدن على قرار القرى، جرى اعتماد عددٍ موحّد لمجالس الأقضية بـ 12 عضواً ينتخبون على أساس نسبي. وبعد نقاش، حسمت اللجنة إجراء عملية الانتخاب على أساس «النسبية المثقّلة»، أي في حال تواجهت لائحتان في انتخابات مجالس الأقضية، يكون رئيس مجلس القضاء ونائبه حكماً من عداد اللائحة الفائزة بـ 51% من الأصوات، ويتم إكمال باقي الأعضاء على أساس النظام النسبي. أما انتخاب القاطنين في القضاء من غير المسّجلين فلم يُحسم بعد، علماً أن غالبية المشاركين يتفّقون على أن الخدمات في القضاء تعني كل السّكان وليس المسجّلين فحسب. وفي هذا السياق، يؤكّد أكثر من عضو في اللجنة بأن الاتجاه هو للتوافق على اقتراع القاطنين وانتخاب ممثّلين عنهم في الهيئات العامة للأقضية، مع اعتماد الآلية التي اقترحها مشروع قانون لجنة بارود بأن يكون هناك ممثل واحد لكل عشرين ألف مقيم في القضاء. إلّا أن النائب آلان عون يؤكّد أنه لم يتمّ حسم هذا النّقاش بعد. فالحذرون من هذا الطرح يخشون من أن هذه الآلية قد تربط المقيمين أكثر بمكان سكنهم (كما هو حاصل الآن في ضواحي بيروت بحكم الأمر الواقع) وتبعدهم عن قراهم، كما يخشون من طغيان تأثير المقيمين على قرار المسجّلين، وتحديداً في أقضية مثل بعبدا والمتن الشمالي وبيروت وطرابلس.
تملك الهيئة العامة للقضاء ثلاث صلاحيات أساسية: التمثيل (انتخاب الرئيس ونائبه بتفويض من الناخبين)، المشاركة (مصادقة الهيئة إلزامية على القرارات الأساسية التي يتخذها مجلس القضاء، تشكيل لجان، التفكير والتخطيط)، والمراقبة (حق نزع الثقة عن المجلس ككل أو عن أحد أعضائه أو عن رئيسه أو نائبه). أمّا مجلس القضاء فهو «السلطة التنفيذية» و«يدخل في اختصاصه كل عمل ذي طابع أو منفعة عامّة في نطاق القضاء، مع مراعاة اختصاص المجالس البلدية»، بحسب المادة 54. وأضافت اللجنة النيابية على هذه المادة أن «لمجلس القضاء صلاحية أن يقدم توصياته في المواضيع ذات المصلحة العامة للقضاء والتي تخرج عن اختصاصه...».
وبحسب المادة 55، فإن صلاحيات المجلس تتحدّد بالآتي (على سبيل المثال لا الحصر): إعداد مشروع موازنة القضاء، إعداد مشاريع أنظمة مجلس القضاء الموضوعة نماذجها من قبل وزارة الإدارة المحليّة (التي يقترح المشروع إنشاءها)، الطلب من مجلس الخدمة المدنية إجراء المباراة أو الامتحانات للوظائف الملحوظة في ملاك مجلس القضاء، وضع استراتيجية عامة لتنمية القضاء، تخطيط وتنفيذ أشغال البنى التحتية، بما فيها السدود والبحيرات ومجاري الأنهر وإنتاج الطاقة، إقامة مشاريع إنتاجية، إدارة المشاعات والغابات، قبول الهبات النقدية والعينية غير المشروطة المقدمة من الجهات الرسمية أو الخاصة أو من أي جهة أجنبية حكومية أو منظمات حكومية أجنبية (لجنة بارود لم تلحظ عبارة «غير المشروطة»)، تنظيم النقل العام، وضع خطة التنمية السياحية والثقافية، تخطيط الطرق المحلية، إنشاء الحدائق...
ويرد في المادة 57 أنه تعتبر قرارات المجلس نافذة دونما حاجة لأي تصديق أو مراجعة من أي كان، باستثناء القرارات المتعلقة بالأمور التالية حصراً: حماية المواقع الأثرية والطبيعية، حماية منابع المياه، المخططات التوجيهية العامة والتصاميم التفصيلية ونظام البناء والإفراز التابعين لها، لكامل القضاء أو لجزء منه، تخطيط وتنفيذ أشغال البنى التحتية بما فيها السدود والبحيرات التي تقع على مجاري الأنهر التي تتجاوز القضاء الواحد، إنشاء المرافئ البحرية والمطارات.

«الأمن» والواردات

ينشأ في القضاء، بحسب المادة 62 من مشروع القانون، جهاز شرطة على مستوى القضاء يرتبط برئيس المجلس، و«تعتبر شرطة القضاء قوّة مسلّحة من عداد الضابطة العدلية»، تتولّى «حفظ الأمن والتنسيق مع الأجهزة الأمنية والعسكرية، تنظيم السير بالتنسيق مع مفارز السير في قوى الأمن الداخلي والشرطة البلدية المختصة، وضع تقارير بالمخالفات، وتنظيم محاضر الضبط، إجراء التحقيقات الأوليّة في الجرائم المشهودة والجرائم التي تمسّ السلامة العامة، ممارسة مهام الشرطة المجتمعية. ولشرطة القضاء أن تطلب مؤازرة القوى الأمنية حيث تدعو الحاجة». إلّا أن اللجنة النيابية أدخلت على هذه المادة تعديلات جوهرية، فبدأت المادة بعد التعديل بأنه «مع مراعاة صلاحيات البلديات وأجهزة الشرطة البلدية، ينشأ جهاز شرطة وتعتبر من عداد معاوني الضابطة العدلية، وتولي الجهاز حفظ النظام في نطاق القضاء»، وتمّ إسقاط مهام القيام بالتحقيقات ومهام الشرطة المجتمعية. وهذا البند أخذ حيّزاً من النقاش، إذ أن الصلاحيات الواسعة التي وضعتها لجنة بارود لشرطة القضاء تحوّلها إلى أجهزة أمنية جديدة في الأقضية. وبعد النقاش، توصلت اللجنة إلى ضرورة حصر الصلاحيات، وتم تعديل المادة 64، وأوكل إلى المعهد الوطني للإدارة إعداد وتدريب العاملين الإداريين في البلديات ومجالس الأقضية، كما يعهد إلى قوى الأمن الداخلي إعداد وتدريب الشرطة البلدية وشرطة الأقضية.
ومع أن اللجنة النيابية لم تبدأ بعد بنقاش مالية القضاء، الذي يبدأ في المادة 78، إلّا أنه للقضاء واردات واسعة، عمادها عدد من الضرائب والرسوم التي كانت تقتطعها السلطة المركزية، من دون زيادة ضرائب جديدة، بالإضافة إلى إنشاء الصندوق اللامركزي الذي يفترض أن يحلّ مكان الصندوق البلدي المستقل. ويلفت بارود الى أن الاستقلال المالي يضمن حق المجالس في التصرف بمواردها المالية (ضمن ضوابط القانون...) وسعيها لتأمين موارد كافية، مع تأكيده على أن المسألة المهمّة هي رفع نسبة الإنفاق المحلي من إجمالي الإنفاق العام، من 5 ــــ 7% حتى 20%. ويربط الواردات بما نسبته 40% تؤمّنها واردات الصندوق اللامركزي، و60% تؤمّنها واردات القضاء، مع التأكيد على أن اللامركزية، في حال تركت الأقضية تعتمد على قدراتها الذاتية فحسب، تكون قد ضربت مفهوم الإنماء المتوازن. وبالتالي، فإن المطلوب من السلطة المركزية أن تعادل بين حاجات القضاء ونسب استفادة الأقضية من الصندوق اللامركزي، بحيث تؤمّن الإنماء المتوازن في الأقضية.




«الجمهورية اللبنانية دولة واحدة»

تتوقّع غالبية النوّاب المشاركين في عمل اللجنة النيابية إقرار القانون في ولاية مجلس النواب الحالي، أو هكذا تتمنّى. وحده الوزير السابق زياد بارود يعتقد بأن إقرار القانون يحتاج إلى تسوية سياسية ليمرّ جنباً إلى جنب مع مجلس الشّيوخ. يأسف بارود لأن اللجنة النيابية اتفقت على إعادة منصب القائمقام الذي ألغاه مشروعه، إلّا أن الوزير السابق خالد قباني والنائب غسان مخيبر يصرّان على أن منصب القائمقام يحفظ دور الدولة المركزية في الأقضية. وفيما يؤكد مخيبر وقباني والنائب آلان عون وبارود أن مشروع اللامركزية الإدارية ليس مرحلة من مراحل الفيديرالية، بل نظام منفصل، وأنه يراعي اتفاق الطائف والدستور بالتأكيد على وحدة الدولة، يشير النائب نواف الموسوي إلى إدخال تعديلات جوهرية على المشروع لمنعه من التحوّل إلى مشروع تقسيمي، لا سيما في المادة الأولى، التي أصبحت صيغتها كالآتي: «الجمهورية اللبنانية دولة واحدة موحّدة ذات سلطة مركزية قوية تتمثّل في المناطق وفق نظام اللاحصرية الإدارية (محافظ، قائمقام، فروع الإدارات العامة...). تعتمد الدولة اللبنانية نظاماً لامركزياً موسّعاً على مستوى البلديات والأقضية تتمتع بالشخصية المعنوية والاستقلالين الإداري والمالي وتدار من خلال مجالس محليّة منتخبة تمارس صلاحياتها وفقاً لأحكام هذا القانون وسائر القوانين المرعية التي لا تتعارض مع أحكامه».





الأخطار والهواجس


يقول الرئيس نبيه برّي إن «اللامركزية الإدارية وردت في اتفاق الطائف من ضمن الإصلاحات الأساسية لتطوير النظام السياسي اللبناني»، لكنّه يؤكّد لـ«الأخبار» «أنني لن أقبل أي استقلال مادي أو أمني لهذه المجالس. لقد دفع اللبنانيون ثمناً غالياً لضرب مشروع تقسيم لبنان، ولن يحصل على الأمر في قانون اللامركزية الإدارية الذي يهدف أوّلاً لإحقاق الإنماء المتوازن».
وفيما تعتبر اللامركزية الإدارية في دول العالم دليلاً على تطوّر النظام السياسي والإداري في دولٍ حسمت بغالبيتها أزمات الهويّة والوطنية، يبدو لبنان في مكانٍ آخر. إذ لا يزال النّقاش الجدّي بين اللبنانيين، متخلّفاً عن عناوين «بديهية» مثل تحديد العدو والصديق والموقف من سلاح المقاومة والصراع العربي ــ الإسرائيلي، كما الموقف من النازحين السوريين والمخيّمات الفلسطينية وحلّ مسألة اللاجئين الفلسطينيين. فضلاً عن أن الانقسام السياسي في البلاد، تجري مذهبته ضمن جو عام تفكيكي يضرب المنطقة، ليفرز إدارات محليّة في سوريا والعراق على أساس هوياتي ضيّق. وما يجري اليوم في ما تبقى من مؤسسات الدولة اللبنانية، هو توزيع كامل لحصص الطوائف، وحصرها في يد جهات واحدة داخل كل طائفة. والسؤال الأساس: ما الضامن، في ظلّ واقع بعض الأقضية الحالية التي تحمل أكثريات مذهبية أو طائفية معيّنة، أن تحلّ هذه المتحدات، في نفوس المواطنين، مكان الانتماء الوطني العام، الذي يعاني خللاً أصلاً؟ طالما أنه لم يعد من حاجة للمراكز الجامعة في حالة المدن، لا سيّما مدينة بيروت، في ظل غياب تام لوسائل النقل العامّة وشبكات الطرق الحديثة، التي تؤّمن عادة في الدول، استمرار دورة الحياة بين الأطراف وبين العواصم، وتربط الشعور الوطني بالمصلحة العامة لدى الأفراد والجماعات.
ولا بدّ من ملاحظةٍ حول اعتماد التقسيمات الإدارية القديمة. إذ أن حدود غالبية الأقضية اللبنانية اعتمدت حدود القضاء وقوعه بين نهرين، ما يمنع أي مجلس من مجالس الأقضية التصرف بأي نهرٍ وحيداً. وعلى الرغم من أن الأحزاب والطوائف تؤثّر إلى حدٍ كبير بمجالس البلديات، إلّا أن حيز التأثير يكون أكبر للقوى المحلية، من الروابط والعائلات والبيوتات الصغيرة في القرى، وهذا الأمر، على علّاته، يمنع الطوائف والأحزاب من التحكّم الكامل بالقرار المحلّي للمجالس المحليّة، إلّا أن وجود مجالس الأقضية، سيؤثّر سلباً على تأثير القوى المحليّة، ويسمح للطوائف والقوى السياسية التي تسيطر على الأقضية، بالتحكّم الكامل بقرارات مجالس الأقضية، مع ضيق هامش القوى المحليّة شيئاً فشيئاً، وصولاً إلى احتكار القرار من قبل الطوائف.