«الجسم الساكن يظلّ ساكناً ما لم تؤثّر عليه قوّة خارجيّة». هذه خلاصة القانون الأول للحركة في فيزياء نيوتن. مَن الذي حرّك ملف اغتيال بشير الجميّل قضائيّاً؟ جائزة لِمَن لديه الجواب. كان ملفاً ساكناً، يعلوه غبار المجلس العدلي، على غرار عشرات الملفّات «المحنّطة» هناك. ما الذي أراده ذاك المُحرّك؟ ربّما هذا أهم مِن معرفة هويّته، فرداً كان أو جماعة.
عودة الحرب؟ سيُقال: وهل انتهت الحرب أصلاً! عبارة شهيرة، إلا أنّها، على علكها المُمل، لا تخلو مِن واقعيّة. حسناً، الحرب الأهليّة لم تنتهِ، فليكن ذلك، ولتُفتح كلّ الملفّات القديمة، المنقطعة منها والمتّصلة، وفي كلّ الاتجاهات. قضيّة اغتيال معروف سعد لا تزال عالقة لدى المجلس العدلي نفسه. ملف زاد عمره على أربعين عاماً. هذا مثلاً. إمّا أنّ الشعوب اللبنانيّة اتفقت على طيّ صفحة الحرب، بكلّ ما فيها، كما اعتدنا أن نسمع، وإمّا أنّ لا «عفو» عن أحد. هذا ما لم ولن يحسمه اللبنانيّون، وهذا طبيعي، منطقي، ذلك أنّهم ليسوا شعباً واحداً، لا عصبيّة عليا تجمعهم، فضلاً عن أنّها الذاكرة الأليمة. ذاكرة لا تموت بموت أصحابها، إذ يورّثها هؤلاء لأبنائهم، فهي أحاديث الهمس المنزلي وثرثرة الجماعات وبوح الأسلاف.

لا تزال قضيّة معروف سعد عالقة لدى المجلس العدلي منذ أكثر مِن أربعين عاماً



المسيحيّون خائفون في لبنان. ذاك الخوف الأزلي. قال لهم الحاكم الأجنبي إن هذه البلاد لكم، ومِنهم، بإصرار، مَن سعى إلى ذلك. صيغت الأساطير، مِن إرساليّات وقناصل وأمراء، مِن «تأسيس» فخر الدين المعني مروراً بالشهابي بشير الثاني... إلى بشير الأخير. مؤرّخون وشعراء ولاهوتيّون صاغوا «الفينيقيّة» وغيرها، هرولوا غرباً وشرقاً، كلّ ذلك بدافع الخوف. آخرون قالوا نحن أيضاً خائفون. هنا يأتي ابتكار «الخصوصيّة المسيحيّة» (المتفرّعة مِن طرح «لبنان الملجأ» للأب هنري لامنس). يأتي التاريخ ويقول للماروني أنت، وبكلّ دليل، لم يتأسس مذهبك إلا في منطقة «حوض العاصي» (حمص وحماة وشيزر، وبعدها حلب)... فيقول لا، بل في جبل لبنان. المسألة أصبحت وعياً جماعيّاً مقدّساً. هذه الحكايات كانت رائجة بقوّة زمن الحرب الأهليّة. كم يبدو مضحكاً أن تضطر لتخبر أحداً أنّ كلّ أرض كانت، ذات يوم، خالية مِن البشر؟ كلّنا أفارقة. أن تجد صيغة للعيش بأمان، أو بالقدر الممكن مِن الأمان، هو غاية ما يُمكن أن تسعى إليه الجماعات، خاصّة في بلادنا. على مرّ التاريخ يُحكى عن جماعات أبت أن تهضم درس التاريخ. نبش الماضي، عشوائيّاً، أو «استعلائيّاً» بمعنى أدق، هو خيار بائس... خاصّة في الراهن. مِن مشاكل «الحالة المسيحيّة» في لبنان، تحديداً، أن شارعها لا يزال يعيش أزمة إسلام ــ مسيحيّة. هذا زمن انتهى. اليوم الأزمة في المنطقة، في البعد الطائفي المُعطى لها، هي سنيّة ــ شيعيّة. جبّاران تُطحَن بينهما الجماعات الأخرى. لا طمع لأحدهما بالفوز على مسيحي بذاته. لا يرى أحدهما بذلك مفخرة ولا فروسيّة... إلا أخذاً بالطريق. وصل الأمر إلى أنّ فريق الثقل السُني في لبنان تحالف مع فريق مسيحي، وعلى المقلب الآخر كان فريق الثقل الشيعي يتحالف مع فريق مسيحي آخر. هذا ليس تفصيلاً. فتح الملفّات القديمة اليوم، ببعدها الطائفي القديم، أي مسلم ــ مسيحي، يبدو سخيفاً جدّاً. الماضي لو فُتح فلن يقف عند عتبة الحرب الأهليّة، بل سيرتدّ إلى الوراء أبعد، ولو خطابيّاً، إلى حكم الشيعة قبل قرون لكسروان ونفوذ الدروز في الجبل (تأسيسيّاً)... في ظل حكم السنة، كإمبراطوريّة، على سائر البلاد. لو يَعلم المسيحيون (الزعماء ــ المُصابون بتوتر خاصّة) في لبنان اليوم أنّ المُسلم، بمختلف طوائفه، هو بحالة خوف مثل خوفهم، وربّما أكثر، وأن سؤال المصير (طائفيّاً) يأكل أرواح الجميع. الكلّ في الخوف أخوة. مَن ذاك الذي يُريد إدخالنا في خطاب الجنون القديم مجدداً؟ فلتكن لدينا قضايا ومفردات جديدة، أقلّه لمكافحة الملل، وتأكيداً للإبداع اللبناني!
ذات يوم كانت بيروت، عاصمة عربيّة، يُسحق وجدانها باجتياح إسرائيلي والعالم يُراقب. يُنتخب بشير الجميّل رئيساً للجمهوريّة (بتهريبة دستوريّة شارك فيها مسيحيّون ومُسلمون). يفرح أرييل شارون، قائلاً: «سيكون هذا هو الرد على جميع الذين سخروا مِن أهداف الحرب في لبنان» (شيمون شيفر). بعد اغتيال بشير يجتمع شارون مع رؤساء «الكتائب» في بيروت، ويقول: «مؤسف أننا فقدنا الإنسان، بشير، كانت لدينا الكثير مِن الآمال. لم أخفِ عنه أسراراً قط». يأتيه الردّ: «المهم الآن أن تسيطروا على بيروت كلّها». هو الوزير الإسرائيلي الحربي الأعتى الذي مدحه بشير، في سهرة جونية، وباسم والده بيار وكميل شمعون، لكونه «صاحب الآراء المعروفة عن ميزة التعاون بين الجيش الإسرائيلي والمسيحيين في لبنان». هذا تاريخ. أين نذهب به؟ المسيحيون عانوا، وعاشوا لحظة تاريخيّة، وبظرف خاص؟ حتماً. لكنّه إرث التاريخ. لمصلحة مَن إعادة النبش؟ ما العمل الآن؟ هي المعضلة اللبنانيّة إيّاها. تلك التي أرّقت مؤرّخاً مثل كمال الصليبي، في «بيت بمنازل كثيرة» عن الكيان اللبناني: «هل كان هنالك شيء اسمه الخصوصيّة اللبنانيّة التاريخيّة؟ أو أن هذه أيضاً لم تكن في أيّ وقت إلا ذريعة ووهماً؟ هل هنالك جوائز سيتم توزيعها على جميع اللاعبين اللبنانيين في نهاية اللعبة؟ أم هل اللبنانيّة الراهنة لعبة لا يُمكن لأيّ طرف أن يربحها أو يخسرها في النهاية، لأنّها مِن نوع لا ينتهي؟».