لم يتغيّر حبيب الشرتوني. «فِعلته» في 14 أيلول 1982 تسكن عقله ومساره حتى اليوم. لم يكن مجرد ردّ فعل من شاب متحمّس. كان لبنان يتحوّل من عصر إلى آخر... نُسف زمن إسرائيليّ في ذاك المبنى المسوّى بالأرض. قُضيَ على مشروع، تماماً كما فعلت المقاومة إبّان عدوان تموز عام 2006. طُويت صفحة الحرب الأهلية «وعفا الله عمّا مضى»، فـ«أمراء» الأمس يتشاركون السلطة حيث تلتقي الأضداد في الحكومة والبرلمان. بقيَ «ملف حبيب». وكأنَّ هناك طرفاً يريد التذكير بأفعاله خلال الحرب، رغم أنّ تصنيف جرم التعامل مع العدو لا يختلف قانونياً وأخلاقياً من زمن إلى آخر. لماذا يبقى الشرتوني وحيداً «منفياً»، إذ يحل غداً موعد إصدار «المجلس العدلي» حكمه في قضية اغتيال بشير الجميل، بعد انتهاء مرافعات وكلاء الادعاء في 7 تموز الماضي. يقول إنّه لن ينصاع لضغط «عائلة»، ويُقدّم نفسه ذبيحة على مائدة رغبات آل الجميّل وأعوانهم ومن يدعمهم. «الأخبار» حاورت حبيب الشرتوني، الرجل الذي «فَعَلَها» غير نادمٍ. تكلّم في السياسة والمحكمة والفكر بالثقة والوضوح اللذين ترسّخا منذ «عملية الأشرفية»، كاشفاً بعض الأسرار التي ظلّلت «الرجل الخفيّ» منذ عام 1990
■ لمَ لا تظهر أبداً على الإعلام بالصورة، وقد أدليتَ مرة واحدة بمقابلة صوتية؟
ألمس دائماً رغبةً لا تُخفى لدى كثيرين في ظهوري الإعلامي ومشاركتي الناس في تفاصيل حياتية يشاركهم بها أيٌ كان، فيما نلمسُ جميعاً وفي آن رغبةً جامحة لدى الوسط السياسي في الإبقاء عليّ منفياً، سواء جسدياً أو معنوياً وحتى افتراضياً. لن أضيفُ تفسيراً على ذلك. إنما يدرك اللبنانيون التفسير الوحيد والممكن، وهو الخشية من حضوري.

أما الأسباب فبعضها معروف والبعض الآخر مبهم. وبما أنك ذكرتَ الحوار الهاتفي مع محطة «الجديد» في 2012، عندما قلتُ في سياقه بأنني لا أشجّع أحداً في لبنان على إبداء رأيه في الأزمة السورية عن أوضاع قد لا يعرفها، كي ينحاز إلى جهةٍ ما ويرتدّ ذلك سلباً على الساحة اللبنانية التي شبعت حروباً. قلت ذلك بعد مشاهدتي لمقابلات وحوارات عدّة في وسائل الإعلام بين لبنانيين أصدقاء للدولة السورية وسوريين معارضين لها، لم تعكس إنطباعاً جيداً، بل احتدمت فيها الحوارات العقيمة، ما ساهم في إذكاء الحرب الكلامية. ولم أقصد في كلامي بالطبع ــــ كما فهِمَ البعض ــــ الحرب على التكفيريين والإرهاب أو الامتناع عن الانخراط في مقتضيات الصراع على الساحة القومية، وهذا الرأي موثق في مدوّنات نشرتُها على موقعي السابق وفي وسائل التواصل، حيث كتبتُ أيضاً عن استهداف القوميين هناك ببضع عمليات اغتيال واعتداء واستدراجهم إلى المعركة، ما سيدفعهم للتسلُّح والتدرُّب وأخذ موقف سيرتدّ سلباً على مهاجميهم. وهذا تماماً ما جرى في ما بعد.

■ كيف تقيِّم جلسات المجلس العدلي لمحاكمتك، وآخرها غداً لصدور الحكم النهائي؟
في ما يخص المحاكمة، من الواضح أن إثارة المسألة بعد كل هذا الوقت وإحالة الملف إلى القضاء جاءتا من جهةٍ كخدمة شخصية وعائلية يقدمّها العهد للمدّعين، وأيضاً في إطار كسب النقاط بين الأحزاب المسيحية وتسجيل العلامات بين التيار الوطني الحر وحزب الكتائب، بحيث سيُقال: ها أننا حاكمنا الذي قتل قائدكم فيما لم تحاكموه، وقد قمنا بواجبنا كاملاً وليس عليكم أن تعيّرونا بأي تقصير. وهذا مؤشر لاستصدار حكم بعقوبة قصوى في أقصر مدة زمنية. كما أنه يفسّر سلوك قضاة المجلس العدلي وعلى رأسهم جان فهد الذي يحاضرُ من جهة في القضاة الجدد عن استقلالية القاضي في تحكيم ضميره وعدم الانصياع لأي اعتبارٍ آخر، فيما يقول لأحد المحامين: تأتيني ضغوط مباشرة من بعبدا ولا أستطيع أن أفعلَ شيئاً.
لقد ضربوا بالقوانين عرض الحائط. فبعد سنوات على صدور دراسة قانونية معمّقة حول هذه القضية، صدرت مؤخراً دراسة ثانية في كتيّب من إعداد محامي عمدة القضاء في الحزب القومي. لكن المحاكمة سياسية بامتياز ولا تعيرُ القوانين المُشرَّعة أية أهميّة.
فبعد أن تحمّلتُ بمفردي، مع عائلتي بالطبع، وزرَ الحقد الطائفي ودفعنا وحدنا الثمن من دون توريط أحد، رغم طرح مئات الأسماء أمامي أثناء التحقيق حتى أفعل، ورغم التعذيب الجسدي المبرّح الذي مورسَ عليّ في السنة الأولى من الاعتقال، لمسَ المواطنون في المرحلة الأخيرة بعضاً من هذا الحقد والاستعداد للتورّط بالعمالة والخيانة مجدداً تحت مسميات ومبررات لا تخدمُ غير مصالح مطلقيها.
أما السبب الأقوى لعدم محاكمة (أمين) الجميّل لي طيلة عهده، والذي قلت أنني سأرجئ الحديث عنه حتى صدوره في كتاب، فلم أقلْ ذلك تزكيةً لكتابٍ من هذا النوع، بل لأن الحقائق التي ستردُ فيه لا يمكن هضمها وفهمها في حوار أو مقال مختصر لن يكون كافياً لتوضيحها كونها معروفة في جزء منها وغير معروفة في جزءٍ آخر لم آت على ذكره بعد، ولا يندرجُ أبداً في سياق القضية.

لم يوقف الجميّل عنّي
خلال عهده شتّى أنواع
التفنّن في التعذيب


وللمناسبة، لم يوقف الجميّل خلال عهده عنّي شتّى أنواع التفنن في التعذيب بأساليب محترفة ومتطورة ومستوردة، وأكملها بعده (العماد ميشال) عون فترة انقلابه على الدولة. أي، بتعبير آخر، لم تتوقف العقوبة على المحاكمة، بل تخطتها بسوء المعاملة وبالتنكيل والقتل الذي لحق بعائلتي. وها هو الرئيس الحالي يحاول مكافأة حليفه الرئيس الأسبق على تسليمه عنق البلاد في تلك المرحلة بعد تصريف ضابطٍ كان متقدماً عليه في تسلُّم قيادة الجيش، ما أشعل حروبَ تحريرٍ وإلغاء مكلفة جداً. وها هو بعد أن انحرف 180 درجة عن مواقفه السابقة ،ولو دافعَ كلامياً عنها إثر عودته من فرنسا فأخذ بعداً وطنياً، يعتبرُ الفترة الفاصلة بين الانقلاب وانتخابه رئيساً، فترةَ انتظارٍ مجحفة بحقِّه في دخول قصر بعبدا الذي انتظره فارغاً طيلة هذا الزمان.
وحتى لا أبالغ ليعتبر أيٌ كان رأيي مبنياً على اعتباراتٍ فردية، فأقول الحقّ: لا أعتقد أن أحداً سينكرُ العمل الصالح والغايات الإيجابية، وأتمنى بالتالي للبلد استمرار الانفراج الحاصل حالياً والتوسع في تحقيق الإنجازات، وفي ما يريحُ الناس، ولو قليلاً في ظل نظامٍ طائفي وعائلي فاسد ارتضوا به وأدخلهم أتون الحروب والأزمات فأورثهم المحاصصة والتسويات والتجاوزات على حساب القانون والدستور والتشريعات، ما انتقصَ من الكرامة الوطنية وحقوق الأفراد والجماعات، حتى باتوا أشبهَ بقبائل تديرُ البلاد نيابةً عن المؤسسات.

■ لماذا اختيرت تواريخ استفزازية برأي البعض، لانعقاد تلك الجلسات؟
السؤال عن اختيار التواريخ الاستفزازية يجب أن يوجَّه لمن اختار تلك التواريخ، لأنني لا أملكُ الإجابة عليه. وهي التالية: 25 تشرين الثاني بعد أيام على ذكرى تأسيس الحزب القومي في 16 منه، 3 آذار بعد يومين على ذكرى ولادة سعاده، 28 نيسان بعد حفنة أيام على ذكرى يوم ولادتي، 7 تموز يوم حوكم سعاده ونُفذ فيه حكم الإعدام فجر اليوم التالي، ما دفع ببعض المشاركين في التظاهرات التي واكبت الجلسات لأن يُبدوا استغرابهم واستهجانهم، وقد حُددت آخرها لصدور الحكم في 20 تشرين الأول لا الثاني حتى تكون مسك الختام ولا تندرجُ أيضاً بدورها على مقربة من مناسبة خاصة بالحزب، فتؤكّدُ المقصد وهو ــــ إن وجِد ــــ يمثِّلُ إهانةً لصورة الحزب وعقيدته ومؤسسه ورموزه.

■ يسألُ كُثر أين تقيم، ومن يحميك؟ فيما ينبري فريقٌ سياسي لاتهامك بالتبعية للمخابرات السورية في الوقت الذي لم يتدخلوا فيه أبداً لطيّ ملفك فترة تواجدهم في لبنان، ولا نرى حتى يومنا هذا جهةً ظاهرة تتبنّى الدفاع عنك؟
تظنُّ أغلبية الناس أنني أختبئُ في مكان ما تحت حراسةٍ مشددة وحماية جهة معينة، لكن هذا الظنّ لا يمتُّ للواقع بأية صلة. لم أختبئ يوماً أو أحظى بحراسات وحماية، وليست هناك أصلاً جهة تبنّتني أو تبنّت أي شيء يخصّني، بل إن هذا الموقف واضح للعيان ولا يتركُ مجالاً للتفسيرات والأقاويل، وقد قمتُ بحماية نفسي وعائلتي التي كوّنتها فترة نفيي بجهدي الشخصي، وما زلنا معرّضين للخطر في أية لحظة، في الوقت الذي رُصِدت فيه مبالغ لتأليف فريقٍ أمني يستقصي المعلومات عنّا ويتابع ترصُّدَه لنا في انتظار فرصةٍ سانحة لاغتيالنا، ناهيك عن احتمال إعتقالي. وهذا ليس كلاماً للاستهلاك، فاللبنانيون لا يجهلون عادات الثأر ممن يأخذون الأمور على محمل شخصي ويعتبرون أمواتهم لا يموتون دون محاسبة من قتلهم، ولو ارتكبوا قبل مقتلهم المجازر والأفعال الشنيعة. وهناك أفرادٌ من قرية شرتون ومن أماكن أُخرى تبرّعوا بالمساهمة في الوصول إليّ لدى الجهة المتابعة لهذا الشأن والمؤلفة من قواتيين وكتائبيين، بمعزل عن أي خلافٍ سياسي أو تنظيمي طارئ بين الحزبين. كما أن بعض المسؤولين أو رجال الأعمال أو المتعاطين في الحقل السياسي والحزبي يعرفون ذلك تمام المعرفة، ومنه يخشون من التدخُّل والتورّط بأي شأنٍ يخصّني.
أما بالنسبة لاتهامي بالتبعيّة للمخابرات السورية ــــ نظراً لمعرفتهم بوضعي الأمني الذي لم يسمح طيلة السنوات الماضية بالردّ والتوضيح، وبعد اتهامنا أخلاقياً بجملة تهمٍ باطلة واتهامي، في الوقت نفسه أحياناً، بالانخراط بصفوف قوات بشير الجميّل أو بوقوف المخابرات الإسرائيلية وراء اغتياله، كما لو أنني على علاقة بالإسرائيليين – فلقد حصل كل ذلك لتشويه صورتي خشيةً من تأثّر الرأي العام المسيحي الذي أصيب بالخيبة من سلوكِ أحزابٍ قادتْهُ إلى الهلاك.
وسأبوحُ الآن، وللمرة الأولى، أنني أكثر شخصٍ تعرّض بين عامي 1994 و2004، فترة تواجدي في الشام، للمضايقات وللاستدراج إلى مشاكل جانبية وحوادث سير، بهدف تصفيتي جسدياً مع عائلتي، في سياق السياسة التي اعتُبرت خطأ في ما بعد، وأدّت الى انسحاب الجيش السوري من لبنان.

تعرّضتُ بين عامي 1994
و2004 للمضايقات
وللاستدراج بهدف تصفيتي جسدياً مع عائلتي

ويعلمُ الله مدى صبري ووعيي في تحمّل تلك الممارسات الملتوية والوضيعة، التي قام بها بعض الضباط والأفراد، بعدما بدأت بتحريضٍ من أحد النافذين في الحزب القومي، وقبل أن تتكشف ازدواجية ولاءاتهم لجهات خارجية يعارضُ بعضُها السياسة السورية، ليتّضح أيضاً تغليبهم لمصالحهم الشخصية على حساب المصلحة العامة، ما أدّى لاحقاً لتنحيتهم عن مناصبهم ثم عزلهم.
ناهيك عن معلومة ثانية، وهي أنني لم أتعرّف فترة عملي أمنياً في لبنان مع نبيل العلم على أي ضابطٍ أو عنصرٍ من المخابرات السورية، وقد اعتبرتُ عملي الحزبي والمجاني هذا بمثابة حماية أمنية وليس استخباراتية للبلد من الأعداء، ولجسم الحزب المعرّض للخطر فترة المواجهات. أي بتعبير آخر، اقتصر جهدي الأمني على الدفاع، ولم أتطرق أبداً للوسائل العدائية وغير المشرفة التي تعتمدُها حسب الحاجة أجهزة الاستخبارات حول العالم.
ولا أعتقد أن أحداً من هؤلاء السياسيين والحزبيين الذين تناوبوا على الإدلاء بتلك الاتهامات الباطلة، قد تعرّض يوماً لما يُذكر من هذا القبيل أو حُرم من أبسط حقوقه الإنسانية أو قال كلاماً محقاً ومقنعاً لا غاية دنيئة منه أو منفعة. إنما بنوا مقولاتِهم استناداً على التحالف المبدئي الناشئ بين مختلف الأحزاب والأشخاص ذوي الطابَع أو الانتماء القومي مع استراتيجية حافظ الأسد الممانعة والوحيدة الباقية بين دول المشرق، والقائمة على عدم الرضوخ، بهدف استعادة الأرض والحقوق.
وأختمُ هذه النقطة بالقول: إذا قرأ الناسُ مقالة «حدثني أبي» فهموا أن جدّي أبى أن يتقاضى راتبه كمختار أساسي لرأس بيروت طيلة 24 عاماً، وأن أبي مثله قدَّم للناس على مدى 50 عاماً خدماتِه الطبية شبه المجانية، فأعطى بدورِه كل ما يملك، ومثلهما سرتُ على هذه الطريق وضحيّتُ بكل شيء في سبيل البلد، وهل يُعقل بعد كل ذلك أن يلتحقَ شخصٌ بهذه الصفات والمورثات بجهاز مخابرات؟! ومن أجل ماذا؟ وما الفائدة وقد خسر بنضاله كل ما يملك؟
لا أحد يجهلُ وسائلَ معظم السياسيين في الإثراء ونسجهم لشبكة علاقات تابعة لهذه الجهة أو تلك، فمن المفهوم أن يتناوبوا بين فينة وأخرى على إطلاق اتهامات تعكسُ حقيقتهم.

■ جرت بعض اللقاءات والاعتصامات والتظاهرات دعماً لقضيتك، مطالبةً بطيّ ملفّك الوحيد الذي بقي عالقاً من حقبة الحرب الأهلية، فما هو تعليقك على هذه التحركات وهل تعتقد أنها ستجدي نفعاً؟
انطلقت هذه التحركات في 2005 على أثر اغتيال الرئيس الحريري وانسحاب قوات الردع ونشوء فريقي 8 و14 آذار، ونقل السلطة من جهة إلى جهة.
وقد حذّرتُ أحد القائمين بالتحرك الأول عن إمكانية اعتقالهم، فيما أصرّ على المتابعة بحيث سُجن مع اثنين فترة وجيزة، خرج على أثرها من دون أن يؤثر توقيفه على مسار حياته، وقد حظي بتعاطف واسع من جهات رسمية وشعبية محليّة وخارجية.
ثمّ اقتصرت هذه التحركات على وسائل التواصل والإعلام وما شاكل ذلك من مجالات افتراضية، إلى أن عاودَت (التحركات) حضورياً في مطعم الساحة، تزامناً مع انطلاق المحاكمة قبل نهاية 2016، واستمرت عام 2017 بدعوة من رؤساء أحزاب محليّة شاركها عددٌ من أعضائها ومن مختلف الشخصيات والشيوخ في الحضور وإلقاء الخطب، إضافةً لأمسية دعت إليها حركةُ قوميين مستقلين، حتى بدأوا بتنظيم المظاهرات مع انطلاق المحاكمة، جابت الطريق قبالة المجلس العدلي مطالبين إياه بتنفيذ القوانين التي تعاقب الخيانة والعمالة بأشدّ العقوبات وتنصفُ المقاومين والمدافعين عن المجتمع في غياب سلطة الدولة فترة الحروب والاحتلال.

ليس لديّ نظام معيَّن
في حياتيّ؛ فلا أوقات
ثابتة لشيء، ولا مكان
محدداً ودائماً للإقامة

وأودّ بالمناسبة أن أوجّه جزيل الشكر والمحبَّة لهم ولهنّ جميعاً على ما بذلوه وفعلوه من جيبهم ووقتهم على حساب راحتهم وراحة ذويهم، لأن القبول بما يجري بظلّ السكوت الكلّي للأحزاب الكبيرة في لبنان وللكتل السياسية في البرلمان، يعني الرضوخ والمذلّة، ولا يظنّن أحدٌ أن التاريخ سيُكتب حسب رغبة هؤلاء، بل إن التاريخ متى دوِّن ولو بعد حين سينصفُ من وقف إلى جانب شعبِه وأمتِه ويدينُ من وقف ضدَّهما.
وأشيرُ هنا إلى كلمة الرئيس الفرنسي الجديد أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث احتشدَ رؤساء الدول، لمَّا بدأها بالشكر الموجّه للمقاومين الفرنسيين الذين بتضحيتهم منذ 70 عاماً منحوا الشعب الفرنسي الحرية والحياة، كما أكّد على عدم صوابية النظريات القائلة بالإنعزال والنأي عن الآخر، فيما تتأثر كلُّ المجتمعات والشعوب ببعضها بعضاً حيث تعيشُ فوق أرضٍ واحدة.

■ إذا كنت تقاتل من أجل مشروع، ما هو المشروع الذي تقاتل من أجله؟ ومن هم أعوانك أو حلفاؤك فيه؟
صحيحٌ أن زمن القتال كما التقاتل في لبنان والمنطقة لم ينتهِ تماماً بعد، ولن ينتهي قبل التوصل إلى تسوية قائمة على استعادة الحقوق ولو منتقصة مع الكيان المحرّض على الفتن والحروب والمشعل لها والمدعوم أميركياً ودولياً.
ليس إلاّ لأن إزالة كيان من هذا النوع ــــ أُنشئ بقرارٍ دولي ــــ غير ممكن إلاّ بقرار دولي آخر أو بقرار قومي لأمةٍ قادرة، وهذان الشرطان غير متوفرين في الوقت الحالي. ما يتركُ تصوراً عن مستقبل إسرائيل البعيد المدى، وهو أن تتحوّل إلى منطقة خدماتية وسياحية خالية من السلاح، في كنف الأمة التي ستتوحّد برأيي حتى ذاك الوقت، بدل أن تكون كياناً معادياً في خاصرتها، فتستمرُّ بآهليها الحاليين دون توافد يهود العالم إليها.
ولن ينتهي بالتالي القتال أو الصراع قبل إيجاد صيغ صالحة للعيش بين مختلف الطوائف والأعراق والأحزاب والزعامات والقبائل والأقاليم على امتداد الشرق الأدنى، فيما لا حاجة بنا لتعدادها كونها معروفة.
وإذ لا يمكن عزل لبنان عن محيطه، بالإمكان تجنيبه بعض ردات الفعل والانعكاسات السلبية من خلال الأمن الممسوك والمضبوط من قبل الجيش والأجهزة الأمنية والجهات الرسمية المكلّفة بهذه المهمة.
أما أهداف القتال، لا أسبابه، الناشئة بالطبع عن ضخّ الأموال والأفكار المشوِّهة للدين وللقيم على اختلافها، فتصبُّ في مصلحة مشروع التقسيم ونشوء دويلات وإمارات، وفي تذكية الإرهاب ومحاربة الاعتدال لتكريس التطرّف بكل أشكاله.
ففي السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي كان الخطر المحدق بمجتمعنا يتمثَّل بالمؤامرة التي حيكت من بوابة لبنان، وأرادوا تتويجها مع اجتياح إسرائيل له، لخلق وضع جديد فيه وفي المنطقة من خلال ضمّ أهدافه الاستراتيجية والسياسية والعسكرية مع أهداف إسرائيل وخلق كانتون طائفي يبرر نشوء دويلات مذهبية وعرقية على شاكلته، لتسبحَ بفلك الهيمنة اليهودية على كيان إسرائيل الجاثم فوق خارطة فلسطين المحتلة، ما يقتضي بالطبع إنهاء مقاومة الشعب الفلسطيني والدخول إلى عاصمة الشام في المرحلة الثانية ولو لفترة وجيزة بعد احتلال كامل مساحة لبنان، بهدف تبديل النظام الممانع لهم هناك، حيث كانت الاستعدادات مع البديل رفعت الأسد سائرة على قدمٍ وساق.
وبعد فشل المشروع من جهة الغرب، توقّعتُ اجتياحهم للعراق من جهة الشرق قبل خمس سنوات على استدراج صدام حسين لاحتلال الكويت، بسبب اقتناعي بمحاولتهم إنشاء دولة كردية تبدأ بالعراق وتمتدّ إلى محيطه.
أما طرح الشرق الأوسط الجديد وسياسات الإدارة الأميركية والحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، وتمويلهم مع حلفائهم الخليجيين والإقليميين لمنظمات وحركات اتضَّحت إرهابية وتكفيرية، فلقد قيل عنه الكثير.

■ هل تتفهم أن الحزب القومي لم يتبنَّ قضيتك؟
لا حاجة للتطرُّق إلى ما يشبه البازار حول هذا الموضوع، الذي افتتحه بعض المسؤولين في الحزب القومي لأنه لا يجوز مناقبياً أن أردّ عليهم بالوقت الحالي.

■ كيف تمضي وقتك اليوم؟ هل تخصص وقتاً للموسيقى والبرامج التلفزيونية وهل تمارس الرياضة؟ نعلم أنك تكتب كثيراً؟ ماذا تكتب؟
ليس لديّ نظام حياتي معيَّن، فلا أوقات ثابتة لشيء ولا مكان محدد ودائم للإقامة. وفيما أعيشُ حقيقةً لقب الشهيد الحيّ، لا يمنعني ذلك من الحفاظ على إرادة كافية لاستمرار الحياة التي تحملُ في طيّاتها وبالأحوال الطبيعية ترييض الجسم حتى لا تسوء حالته كثيراً نظراً للأعباء التي تحمَّلها من قبل، والإصغاء إلى لغة الروح العالميّة، والجلوس مساءً أمام الشاشة، ورؤية حفنة أصدقاء من وقتٍ لآخر، وخصوصاً الهروب إلى الكتابة كهواية مفضّلة لديّ. وقد أمسى لي عدد من المؤلفات المتنوعة المواضيع، التي قد تراها أو ربما قد لا تراها عيون القرّاء في أحد الأيام.




علاقة حبيب بـ«الأخبار»

ظلّت «الأخبار» منذ انطلاقتها تهتم بمتابعة كل ما يتعلق بحبيب الشرتوني والحملات ضده أو معه. وفتحت الباب أمامه شخصياً للكتابة والتوضيح، بالإضافة إلى مقابلة أجرتها معه في عام 2012. ولكن لحبيب ملاحظات على طريقة تعامل «الأخبار» مع هذه المواد التي نُشرت في تواريخ مختلفة. وهو يقول:
«طالما أن الحوار هذا يحصل مع «الأخبار»، لا بدّ من الإشارة إلى حصول تعديل في بعض كلامي ــــ أي لم يكن هناك أية خلفية أو سوء نية ــــ في موضعين: الأول في المقابلة (التي أجراها عفيف دياب) عام 2012، والثاني في آخر مقال «حدثني أبي» الصادر في 2017، ما ترك مقالاً واحداً لم يُمسّ أبداً من بين كل ما نُشر في الصحيفة وهو الردّ على وثائقي بشير الجميّل.
وأقول هذا ليس بسبب أي تشويه لحق بالكلام طالما لم يحصل، بل لأن التعديل خفَّضَ من مستواه الأدبي ومن دقة التعبير ومن مصداقية بعض الوقائع.
وبما أنّ الحديث يدور حول ما صدرَ في المطبوعة، أضيف أنني قلتُ خلال الحوار الذي أجري عام 2012:
أنني لم أستوعب ما المقصود بعبارة الممانعة، وشكّكتُ في مدى تعبيرها عن الامتناع عن قبول ما يُفرض علينا، وأردفتُ أن التعبير الأدق هو المقاومة، فلم نعدْ نسمع اليوم بأية ممانعة بل طغى فقط تعريف محور المقاومة.
كما أعترفُ أنني شككتُ عند قراءتي مقال أسعد أبو خليل عن «الرجل الخطير» أنه موجّه لي بظلّ كثافة التعليقات عليه والتي لفَّها بعضُ الإبهام، ليس إلاّ لأنه حملَ الكثير من صفاتي الشخصية ومن منهاج تفكيري، ولكني تأخرتُ من ناحية لبعض الوقت حتى قرأتُه ولم أتوقع من ناحية ثانية أن يقصدني الكاتب لأنني كنت مغيّباً تماماً فترتها عن أي ذكرٍ أو إهتمام إعلامي. وعندما أرسلتْ لي إحدى الصديقات المقال، ثمّ تعليقاً للكاتب يقول فيه: وأخيراً تأكدتُ أن الرجل الخطير قد قرأ مقالي وعرف أنه موجّه له. سألتُها كيف عرف هذا؟ فأجابت أنا أخبرتُه».