في الدول المنتجة للبترول والغاز، تشكل الضرائب والرسوم على الشركات العاملة مصدراً مهماً للدخل يمتاز عادة بالشفافية وبسهولة تقييمه مسبقاً لفترة طويلة من الزمن، في ضوء القوانين المرعية والاتفاقيات المبرمة مع الشركات المعنية، ويمتاز أيضاً بسرعة حصول الدولة عليه تدريجاً، نظراً إلى أن بعض عناصر هذا الدخل تدفعها الشركات فور توقيع الاتفاقيات، كما هي الحال بالنسبة إلى الرسوم على مساحات الرقع المخصصة لها، أو العلاوات (Bonus) على أنواعها، أو الإتاوات (Royalties) المتفق عليها والتي تحتسب شهرياً على أساس قيمة الكمية المنتجة، بغضّ النظر عن وجود أو عدم وجود أرباح، وذلك انطلاقاً من أول شهر إنتاج، إذ إن الإتاوة ليست ضريبة بحد ذاتها، بل إنها رسم تسدده الشركة المنتجة بمثابة تعويض عن تناقص مخزون مادة أولية ناضبة.
أما في لبنان، وبعد إقرار مشروع قانون الأحكام الضريبية المتعلقة بالأنشطة البترولية في 19 أيلول الماضي، فلا بد من التساؤل: إلى أين نحن سائرون؟ وما يمكن لبنانَ أن يتأمله من دخل مالي وفوائد اقتصادية أخرى مباشرة وغير مباشرة جراء استثمار هذه الثروة الموعودة؟ وهل هذا الدخل وتلك الفوائد الاقتصادية على أنواعها ستكون على مستوى ما يحق للبنان، وضمن شروط تحقق له توازن مصالح معقولاً ومقبولاً مع الشركات العاملة؟
الإجابة عن هذه التساؤلات تستلزم، كي تكون شاملة وموضوعية، المقارنة المدعومة بالأمثلة والأرقام مع ما يجري في سائر بلدان العالم ذات الأوضاع الأقرب لأوضاعنا، خاصة أننا لسنا البلد الوحيد في العالم الذي يود ويحتاج التعاون مع شركات عالمية تملك التجربة والتكنولوجيا والرساميل اللازمة، للمساهمة في استثمار ثروة محتملة.

الشركات تتحكم بكل معطيات الواردات والنفقات والأرباح

من حيث الدخل المالي خاصةً، تقتضي المقارنة بين لبنان وغيره من الدول الأخذ بالاعتبار ليس فقط ضريبة الدخل على الشركات البترولية التي نص عليها قانون الأحكام الضريبية الجديد، بل مجمل مكونات «حصة الدولة» (Government Take) من أرباح صناعة البترول والغاز، والتي يتناولها جزئياً القانون المذكور، في حين أن القسم الأكبر والأهم منها تنص عليه أحكام دفتر الشروط ونموذج اتفاقيات الاستكشاف والإنتاج (EPA)، التي تضمنها المرسوم 43/2017 الذي أقره مجلس الوزراء على عجل في 4 كانون الثاني 2017، بعد أن بقي سرياً وجمدته «التجاذبات السياسية» خلال ما يقارب أربع سنوات. ذلك كله دون الإعلان وتبليغ اللبنانيين عن أسباب هذه السرية وهذا التجميد، فضلاً عن أسباب أو طبيعة الخلافات ثم «التفاهمات» السياسية التي أدت بين ليلة وضحاها إلى إقراره.
هذه الظروف الفريدة من نوعها، التي رافقت مخاض ولادة التشريع البترولي في لبنان، ليست المفاجأة الوحيدة التي تبرز من تحليل أحكام هذا التشريع ومقاربتها مع ما يماثلها في سائر الدول المنتجة للبترول والغاز. المفاجآت الأخرى، الصغيرة منها والكبيرة، تكمن عملياً في معظم هذه الأحكام، التي تمتاز ببعدها عما هو متعارف عليه في العالم وبكونها دون المستوى الممكن والمعقول لتأمين مصالح الدولة، ودون المعايير المألوفة في صناعة البترول والغاز. هذا ما يستدل من استعراض مكونات حصة الدولة، الواحدة بعد الأخرى، وفق تتابعها الزمني:
(1) العلاوات ورسوم المساحة: من اللافت في التشريع البترولي اللبناني الغياب أو التناسي التام لكل أنواع ما يسمى العلاوات، أي المبالغ التي يترتب على الشركات العاملة تسديدها عند توقيع العقد، أو عند حصول أي اكتشاف تجاري، ثم بدء الإنتاج، ثم بلوغه مستويات معينة يُتَّفَق عليها مسبقاً. كذلك فإنه من اللافت المستوى الرمزي للرسوم الخاصة بمساحة رقع الاستكشاف والإنتاج المطبقة في مختلف البلدان.
(2) الإتاوات: الأهم من ذلك بكثير هو ضآلة الإتاوات التي تشكل عنصراً أساسياً وثابتاً لدخل الدولة. فالإتاوة على البترول في لبنان تراوح بين 5 و12٪ حسب مستوى الإنتاج، والإتاوة على الغاز تبقى ثابتة على مستوى هزيل لا يتجاوز 4%، في حين أن المعيار العام المعروف في العالم منذ فجر صناعة البترول في الولايات المتحدة الأميركية في مطلع القرن الماضي، وفي كل أنظمة الاستثمار، هو 12.5٪ من قيمة الإنتاج، تقل أو تزيد قليلاً عن هذا المعيار في بعض العقود، وتبلغ 18.75٪ في جزء من خليج المكسيك.
(3) استرداد النفقات: إن تحديد جدول زمني وحد أقصى سنوي لاسترداد النفقات الرأسمالية والتشغيلية يشكل عنصراً مهماً في احتساب الأرباح الخاضعة لضريبة الدخل وغيرها. فتسارع هذا الاسترداد يؤدي إلى تضاؤل واردات الدولة، وربما هبوطها إلى الصفر خلال سنوات الإنتاج الأولى. لهذا السبب تُعاد جدولة هذا الاسترداد على 4-6 أعوام، وبحد أقصى لا يتجاوز 50% سنوياً من الواردات. هذا ما يعرف في الاتفاقيات البترولية ببند «Cost stop». أما في لبنان، فقد رُفع هذا السقف، دون أي مبرر، إلى 65٪ كذلك أُخضع، هو وشروط أخرى، للمزايدة مع كل شركة على حدة!
هذا الوضع يذكر بالنزاع الشهير الذي نشب بين روسيا وشركة «شل» حول عقد استثمار واحد من أكبر حقول الغاز في سيبيريا، في جزيرة سكالين. وذلك عندما اكتشف فلاديمير بوتين أن دخل روسيا من هذا الاستثمار كان شبه معدوم نتيجة لاسترداد النفقات بوتيرة مخالفة للمعايير الدولية المتعارف عليها. وانتهى النزاع عندما اعترفت الشركة بهذه المخالفة وقبلت بالتخلي عن هذا العقد الضخم. وكانت هذه الحالة الوحيدة، أو شبه الوحيدة، التي ترضخ فيها شركة بترول عالمية لطلب دولة مضيفة أصرت على رفع الغبن عنها. فهل يا ترى سيكون بوسع لبنان أن يفعل ما فعلته روسيا عندما يدرك اللبنانيون، عاجلاً أو آجلاً، مدى الغبن الذي تلحقه بهم شروط أهم بأضعاف من موضوع شروط استرداد النفقات، وفي اتفاقيات دولية أُبرمّت مع شركات عملاقة لفترة تناهز أربعين عاماً؟
(4) ضريبة الدخل العادية على أرباح الشركات البترولية: بعد أخذ ورد استمر أكثر من أربعة أعوام، جاء أخيراً قانون الأحكام الضريبية الجديد ليحدد هذه الضريبة بـ20%، مقابل متوسط عالمي لا يقل عن 26٪ في الاتفاقيات المشابهة.
(5) تقاسم الأرباح: من أخطر الانحرافات في التشريع البترولي اللبناني أنّ المرسوم 43/2017 قد تجاهل أحكاماً جوهرية من القانون البترولي 132/2010 عندما نص في المادة 5 على أن الدولة لن تشارك في الأنشطة البترولية في دورة التراخيص الأولى، ما يعني تلقائياً رفض نظام تقاسم الإنتاج الذي يقوم عليه القانون، والاستعاضة عنه بما سماه بعض المسؤولين «تقاسم الأرباح». انطلاقاً من هذا النظام، يحدد المرسوم حصة الدولة من الأرباح بـ 30% على الأقل، قابلة للزيادة وفق آلية مزايدة ترك أمر تحديد ضوابطها وعناصرها للتفاوض مع الشركات المعنية، كل على حدة. هذا مع العلم أن مبدأ المزايدة حول موضوع بأهمية دور الدولة وحصتها من الإنتاج والأرباح مرفوض بشكل عام في سائر بلدان العالم، لأنه يتناقض والحاجة للشفافية الضرورية لكل الأطراف المعنية، كذلك فإنه يشكل محطة رئيسية للرشى والفساد خلال تفاهمات وراء الباب بين الشركات المعنية وبعض موظفي الدولة.
يبقى، هنا أيضاً، أن حصة 30% كحد أدنى للدولة من الأرباح تقع إلى حد بعيد دون ما هو مطبق ومتعارف عليه في العالم. ففي أنغولا، على سبيل المثال، ترتفع حصة الدولة تدريجاً من 50 إلى 70% عندما يرتفع الإنتاج من أقل من 40,000 برميل يومياً إلى أكثر من 80,000 ب/ي. وفي قطر ترتفع حصة الدولة من 55 إلى 75% . أما إسرائيل، فتطبق نظاماً ضريبياً يشمل إتاوة 12.50% من قيمة الإنتاج وضريبة «عادية» تبلغ 25% من أرباح الشركات العاملة. تضاف إلى ذلك ضريبة خاصة تصاعدية على الأرباح الاستثنائية « Windfall profits». والمقصود بالأرباح الاستثنائية القسم الإضافي من الأرباح الذي تحققه الشركة العاملة عندما يبلغ عامل الدخل (R Factor)، أي عندما تتجاوز نسبة دخل الشركة المعنية إلى نفقاتها 1.5. وقد حدد القانون البترولي الإسرائيلي عام 2011 هذه الضريبة على الأرباح الاستثنائية انطلاقاً من 20% عندما يبلغ عامل الربح 1.5، ترتفع إلى 35% عندما يبلغ نفس العامل 2، ثم ترتفع إلى 45.52% عندما يبلغ العامل 2.3. استناداً إلى هذا النظام الضريبي، تشير تقديرات البنك المركزي الإسرائيلي إلى أن حصة الدولة المرتقبة من إنتاج الغاز من حقول تامار وليفياتان وكاريش وتانين ستناهز 130-140 مليار دولار خلال الفترة 2014-2040، من أصلها نحو 60 مليار دولار تشكل مجموع الإتاوة والضريبة العادية على الأرباح المرتقبة. أما القسم الباقي والأكبر، أي 70-80 مليار دولار (55.5٪ من مجموع الدخل المرتقب)، فمصدره الضريبة التصاعدية على الأرباح الاستثنائية، ما يدل على الأهمية الخاصة لهذه الضريبة بين مصادر الدخل، وذلك على عكس ما ينطوي عليه التشريع اللبناني بسب «فخ المزايدة».
(6) فخ «المزايدة» في لبنان: في ضوء ما سبق تتضح خطورة آلية المزايدة التي نص عليها المرسوم 43/2017 لتحديد المعطيات التي تُتَّخَذ منطلقاً لارتفاع حصة الدولة من الأرباح. فبدلاً من توضيح هذه المعطيات مسبقاً وبالأرقام، أي بنحو موضوعي وشفاف في صلب القانون، كما هي الحال في إسرائيل وسائر بلدان العالم، ترك هذا الموضوع برمته للأخذ والرد، تحت غطاء السرية التامة، بين بعض موظفي وزارة الطاقة وممثلي الشركات العاملة التي أصبحت تتحكم بكل معطيات الواردات والنفقات، ومن ثم الأرباح، منذ طرد الدولة من الأنشطة البترولية وتجريدها من كل إمكانية ممارسة فعلية لحسابات الشركات المعنية. وهذا يعني بتعبير آخر أنه أصبح من المستحيل عملياً التنبؤ بتاريخ ونمط التطور الزمني لزيادة حصة الدولة من الأرباح، خاصة أن المادة 35 من المرسوم 43/2017 تنص تحت عنوان «التزام بالسرية» على أنه لا يحق لأي طرف كان البوح بتفاصيلها لأحد. لهذه الأسباب، لا يستطيع أي مسؤول عن قطاع البترول والغاز في لبنان إعطاء أي رقم أو أي تقدير للتطور المنتظر لنصيب الدولة من الأرباح، ولا طبعاً عن تاريخ زيادة هذا الحد الأدنى إلى ما فوق الـ30٪ التي نص عليها المرسوم.
* موجز محاضرة ألقيت في 12 تشرين الأول 2017 في نقابة المهندسين، بيروت