يوجّه خبراء نفطيون مشهود لهم بالكفاءة والمعرفة وسعة الاطلاع تحذيرات جدّية من النتائج المترتبة عن طريقة التعاطي الرسمي مع قطاع النفط في لبنان.
في مقدمة هؤلاء الخبير المتخصص، نقولا سركيس، الذي رفع الصوت منذ سنوات، ولا يزال، من أجل الدفاع عن مصالح الدولة والمجتمع وفضح الآليات المعتمدة التي تهدف إلى خدمة مصالح الشركات الخاصة والمحاصصة والفساد، إذ تؤدي هذه الآليات إلى جعل لبنان «البلد الوحيد في العالم الذي يقبل بتخلي الدولة، رسمياً، عن دورها المحوري وعن مسؤولياتها في استثمار ثروتها النفطية الموعودة، والدولة الوحيدة التي تقبل بقفزة إلى الوراء لتعود إلى نظام الامتيازات القديمة التي نبذتها كل الدول النامية وجرى تأميم آخرها في مطلع السبعينيات من القرن الماضي، والدولة الوحيدة التي ترضى لنفسها بأدنى دخل بترولي وبشروط استثمار من الأسوأ في العالم، إن لم تكن أسوأها على الإطلاق».
على الرغم من أهمية هذه التحذيرات والمخاوف الكثيرة التي تثيرها، تصرّ الجهات الرسمية على التعامل بخفّة واضحة معها، وبدلاً من السعي إلى تصحيح المسار بما يؤمن المصلحة العامّة، تذهب هيئة إدارة قطاع البترول إلى الدفاع عن هذا المسار واعتباره، كالعادة، المسار الوحيد المتاح.
في هذا السياق، انفجرت «قلوب هيئة البترول المليانة» خلال ندوة نظّمتها نقابة المهندسين، أول من أمس، بعنوان «الغاز والبترول في لبنان: القدرات والمخاطر وفرص النجاح»، إذ عمد رئيس الهيئة، وسام شباط، إلى الهروب من المواجهة مع سركيس بشخصنة السجال واتهامه بالكذب وخدمة مصالح دول مجاورة... ما دفع نقيب المهندسين، جاد تابت، إلى التدخّل، والطلب من شباط الاعتذار من سركيس.
انطلقت الندوة بمحاضرة ألقاها سركيس عن المخاطر التي تحيط بالقطاع النفطي في لبنان، مُعدّداً ملاحظاته على المسار الذي يتحكّم بإدارة هذا القطاع وتنظيمه وقوننته منذ البداية، الأمر الذي جعل شباط يخرج عن طوره ويستهل محاضرته، المُخصّصة للحديث عن «احتمالات العثور على نفط في لبنان وطرق التنقيب»، بالتهجم الشخصي على سركيس، قبل أن يتطوّر النقاش ويتحوّل إلى شجار وصراخ داخل القاعة.
بدأ شباط حديثه بالإشارة إلى أن كلّ ما عرضه سركيس «لا يمتّ إلى الحقيقة بصلة، وأن القوانين التي ينتقدها هي غير القوانين النفطيّة اللبنانيّة»، فتدخّل سركيس طالباً منه «احترام عقول الحاضرين»، ليردّ عليه: «أنا محترم العقول إنت اللي مش محترمهم. لأن كلّ ما تقوله هو كذب موصوف!». فتدخّل نقيب المهندسين طالباً من شباط الاعتذار من سركيس، فرفض الثاني مُهدّداً بإلغاء المحاضرة والمغادرة، بحجّة أن «هناك نصوصاً واضحة ومنشورة، ولا يجوز تحريف الأمور للتأثير سلباً في الناس، ودفعهم إلى المطالبة بوقف مسار هذا القطاع وعرقلة انطلاقته».
تثبت هذه الواقعة، ما يُثار عن محاولات هيئة إدارة قطاع البترول الازدراء بكلّ الآراء التي تنتقد كيفيّة إدارة قطاع النفط والغاز في لبنان، والسعي إلى تسخيفها وتهميشها ومنع وصولها إلى مسامع الناس والمهتمين.

سركيس: المنظومة
التشريعيّة للنفط تسلّم أمرنا للشركات لتكدّس ثرواتها


تأتي الندوة بالتزامن مع إقفال دورة التراخيص الأولى للتنقيب عن النفط، حيث من المتوقّع أن تُجري هيئة إدارة البترول تقييم العروض المُقدّمة، وترفع تقريرها إلى وزير الطاقة خلال شهر، قبل إحالتها على مجلس الوزراء لإعطاء التراخيص للشركات الفائزة.
تمحورت المحاضرة التي ألقاها سركيس حول «المخاطر على الغاز والبترول في لبنان»، عارضاً مساراً طويلاً من التدابير التي وصفها بـ«المريبة»، رافقت ولادة المنظومة النفطيّة اللبنانيّة. يقول سركيس إن «ما يحصل في لبنان منذ سنوات لا يشبه ما يحدث في أي بلد آخر، وهو مفاجئ واستثنائي. وها نحن ندخل مرحلة التفاوض مع الشركات لتوقيع عقود ستمتدّ حتى 40 عاماً قد تؤدي إلى نتائج كارثية». ويتابع سركيس: «البداية مع قانون النفط الذي أقرّ عام 2010، ويحتوي بأغلبه على مبادئ عامّة، والقليل من المبادئ الأساسيّة. يليه تشكيل هيئة لإدارة قطاع البترول تمثّل الطوائف ليكون أشبه بمجلس ملّة، ومن ثمّ صدور المراسيم التطبيقيّة للقانون متضمّنة السياسة التي ستنفّذها الهيئة دون العودة إلى البرلمان، ومن ضمنها اتباع نظام تقاسم الإنتاج بطريقة مشوّهة تجمع بين الامتيازات وتقاسم الإنتاج، وتقضي في النهاية بتقاسم الأرباح، مع ما يعني ذلك من تنازل الدولة عن مواردها لمصلحة الشركات الأجنبيّة، فضلاً عن إقرار مرسومي تقسيم البلوكات ونموذج عن عقد الاستكشاف وتفاصيله التقنيّة (مؤلّف من مئات الصفحات) دون إعطاء الوزراء الوقت الكافي لقراءتها». ويضيف سركيس أن كل ما تقدّم يؤدي إلى «تسليم أمرنا للشركات لتكدّس ثرواتها، خصوصاً أن الدولة لن تشارك في الدورة الأولى من التنقيب، في حين لها حقّ بتعيين مراقب واحد يمثّلها للمشاركة في اجتماعات هيئة إدارة الشركة، فضلاً عن إقرارها شروطاً ماليّة وضريبيّة تخدم مصالح الشركات». وشرح سركيس بالتفصيل مكونات حصة لبنان من استثمار ثروته من الغاز، أي إتاوة 4% تضاف إليها 30% من الأرباح وضريبة 20% على أرباح الشركة العاملة، ويقول: «إن هذه الحصة لن تتجاوز في أفضل الحالات 47% في مقابل نسب تراوح بين 65 و85٪‏ في أكثر من 70 دولة تطبق نظام تقاسم الإنتاج في العالم. لا بل إن نسبة الـ 47% المذكورة تبقى أدنى بكثير مما كان يؤمنه في القرن الماضي نظام الامتيازات في الدول العربية وغيرها من البلدان النامية، الذي كان يتكون من إتاوة 12.5% من قيمة الإنتاج، تضاف إليها ضريبة 50% على الأرباح. هذه الفروقات الكبيرة بالنسبة إلى ما تحصل عليه الدول المنتجة ستترجم بخسائر قد ترتفع إلى المليارات من الدولارات في لبنان».
ما كشفه سركيس أثار حفيظة شباط، الذي كان مدعواً إلى الندوة لإلقاء محاضرة بعنوان «فرص نجاح عمليات الاستكشاف في لبنان»، فأشار إلى أن «التفاوض مع الشركات ينحصر بالعرض الفني لتحسين شروطه، في حين أن المراسيم تحدّد المدة القصوى للعروض بـ25 عاماً مرتبطة بكبر الحقل وخطّة الإنتاج المعروضة والمشروطة بموافقة الحكومة. فضلاً عن أن مرحلة الاستشكاف ستمتدّ لخمس سنوات قد تُضاف إليها سنة واحدة إذا تبيّن أن هناك استكشافاً تجارياً. وهي تنقسم إلى مرحلتين: الأولى لثلاث سنوات، وإذا تبين أن هناك استكشافاً تجاريّاً تتنازل الشركة عن 25% من مساحة الرقعة النفطيّة للدولة، وفي حال العكس تتخلّى عن الرخصة البتروليّة الممنوحة لها. وفي المرحلة الثانية إذا نجحت الشركة في استكشافاتها التجاريّة تتخلّى عن 25% من الرقعة النفطيّة للدولة، وتقدّم خطّتها للإنتاج لتحديد مدّة العقد»، ويتابع شباط: «لبنان لا يقارن مع دولة لديها خبرة في التنقيب، بل مع دولة جديدة في هذا المجال، علماً أن الهيئة أنجزت الكثير من المسوح والدراسات لتحسين شروط الدولة، ودورنا محصور فقط في الإدارة والإشراف، لكون وضع السياسات هو من مسؤولية الحكومة. مع الإشارة إلى أن القانون يتضمّن تفاصيل كلّ مراحل العمليّة النفطيّة، وبالتالي لا يجوز تسطيحه، لكون أهمّيته في محتواه لا بعدد صفحاته، وكذلك الأمر بالنسبة إلى المراسيم التي بدأت دراستها منذ عام 2013 قبل إقرارها في عام 2017. وفي ما يتعلّق بتقاسم الإنتاج، ترمي الصيغة المطروحة كلّ المخاطر على الشركات، فيما تقاسمها الدولة المداخيل، على أن تتأسس شركة وطنيّة بعد حصول أول عمليّة استشكاف تجاري». ويضيف شباط أن «الحوض المشرقي يحتوي على كميات من الغاز والنفط، وهناك اكتشافات مثبتة في القلمون والحوض التدمري، ودول أطلقت دورة تراخيص ثالثة، وبالتالي إمكانيّة خسارة الأسواق كبيرة إن لم نسارع في إطلاق عمليات الاستكشاف والتنقيب».




ائتلاف واحد في رقعتين!

رفعت هيئة إدارة قطاع البترول إلى وزارة الطاقة والمياه، تقريرها الأولي عن تقديم عروض المزايدة في دورة التراخيص الأولى التي اختتمت في 12/10/2017، إذ قدّم الائتلاف المؤلّف من شركة Total SA الفرنسية، وENI International BV الإيطاليّة، وJSC Novatek الروسيّة طلب مزايدة للحصول على رخصة بتروليّة في الرقعة رقم 4 (في الوسط اللبناني)، وطلباً آخراً في الرقعة رقم 9 (في الجنوب اللبناني). خلال شهر، يفترض بهيئة إدارة البترول، أن تدرس العرضين المقدّمين على الرقعتين رقم 4 و9، من الناحية التقنيّة، قبل فضّ العروض الماليّة، ورفع تقريرها الثاني مرفقاً بمجموعة توصيات إلى وزير الطاقة، لإحالته على مجلس الوزراء لاتخاذ القرار بشأن منح الرخصة البتروليّة. على الرغم من تقدّم ائتلاف واحد، إلا أن الهيئة وجدت هذه النتيجة «إيجابيّة» لأن لبنان استطاع «جذب شركات عالميّة لاستكشاف حقول الغاز وتطويرها، في حين أن العدو الإسرائيلي أجّل دورة المزايدة لديه ثلاث مرّات».