تراجُع تيار المستقبل في السنوات الماضية لم يكن حكراً على طرابلس، بل كان سياقاً عاماً في كلّ المناطق ذات الثقل «المُستقبلي». بدأ مع الضائقة المالية، وغياب رئيس الحكومة سعد الحريري لسنوات عن البلد، وإقفال عدد من المكاتب، واشتعال الخلافات بين الحزبيين، وصولاً إلى التسوية الرئاسية وما رأى فيه خصوم الحريري وبعض حلفائه تنازلات لمحور ٨ آذار.
لكن التراجع في طرابلس كان «فاقعاً» أكثر من أي منطقة أخرى، بسبب وجود «بُدلاء» للتيار الأزرق حاضرين لاستيعاب القواعد الشعبية، إن كان عبر رفع سقف الخطاب السياسي (الوزير السابق أشرف ريفي)، أو عبر تقديم الخدمات (رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي)، الأمر الذي حدّد موقع تيار المستقبل، في معظم الإحصاءات، في المرتبة الثالثة.
مع اقتراب موعد الانتخابات النيابية، بدأ المستقبليون يتعاملون مع طرابلس (وبقية الدوائر الانتخابية) بطريقة مغايرة. زيارات متتالية لرئيس التيار، ولأمينه العام أحمد الحريري، وعود بتقديم الخدمات عبر الوزارات التي «يمون» عليها «المستقبل»، ومُحاولة إعادة استمالة بعض «الشعبيين» الذين بدأ يخسرهم ريفي نتيجة الأزمة المادية التي يمر بها… سياسي طرابلسي، ليس حليفاً للحريري، يؤكد أنّ تيار المستقبل «موجود في طرابلس. صحيح أنّه ليس بالقوة التي كان يتمتع بها قبل انتكاساته، ولكن لا يُمكن الادّعاء أنه انتهى». وطالما أنّه «لم يأخذ أيّ فريق طرابلسي القرار بالمواجهة، لن تكون هناك مرجعية سياسية غير الحريري، لا سيّما أنّه الآن رأس السلطة التنفيذية ويملك النفوذ». يُدرك الطرابلسيون جيداً أنّ الحريري «واهن»، على ذمّة السياسي، بيد أنّهم في الوقت نفسه «يسألون ما هو البديل الذي سيحكمنا؟ حتى إنهم باتوا يُناقشون في أنّ قرار الحريري انتخاب الرئيس ميشال عون رئيساً للجمهورية أنقذ البلد، غير آبهين بما تبع ذلك».
الرؤية السياسية لعمل تيار المستقبل في طرابلس تختلف بين السياسيين وبين الحزبيين المسؤولين عن التعامل مع القواعد الشعبية والملفات الخدماتية. خصوم «المستقبل» يعزون التراجع الى «شحّ الخدمات والفشل التنظيمي»، ويعودون إلى الخلاف الذي برز قبل عام بين مسؤول الشؤون التنظيمية العميد المتقاعد فضيل الأدهمي وأمين سر المنسقية النقيب أديب زكريا من جهة، والمُنسّق ناصر عدره من جهة أخرى، بعدما اعتبرا أنّ تعيين الأخير يعني وضع النائب سمير الجسر يده بشكل كلّي على المنسّقية. بحسب المصادر «الأدهمي وزكريا أصبحا محسوبين على ميقاتي». آخرون أيضاً، من الحرس القديم خاصة، «يُغادرون من دون ضجّة». إلى أين؟ «ليس إلى أي مرجعية سياسية أخرى، بل إلى منازلهم، لأنهم تعبوا».

يعوّل التيار على أحمد
الحريري لاستقطاب أفراد من جماعة
ريفي في طرابلس

غياب «الفعاليات» الطرابلسية يظهر بشكل خاص «خلال الاحتفالات والمناسبات التي تُنظمها المنسقية الزرقاء، إذ تغيب عنها الأسماء البارزة والشخصيات الوازنة التي كانت تُشارك سابقاً». الوضع ليس أفضل حالاً بين مُنسقية طرابلس وأعضاء المكتب السياسي «حيث يبرز التعارض في وجهات النظر وغياب رؤية موحدة للعمل». أما زيارات الأمين العام للتيار أحمد الحريري إلى طرابلس، فتصبّ في إطار محاولاته «نسج علاقات شخصية مع الطرابلسيين، وتعويض النقص في الخدمات. ولكنه يكون صريحاً مع الناس، بالقول إنّه قادر حصراً على الخدمة عبر أجهزة الدولة الأمنية، ووزارة الداخلية، وحلّ الملفات القضائية العالقة». بهذه الطريقة، يتمكن الأمين العام من «استقطاب أفراد من جماعة ريفي». ألا ينعكس ذلك إيجاباً إذاً على وضع «المستقبل»؟ تردّ المصادر بالموافقة، «ولكن يبقى تأثير الزيارات شكلياً أكثر من أي شيء آخر».
الانتقادات التي تنهال على الحريري كثيرة. لا يتعلق الأمر فقط بقبوله انتخاب رئيس حليف لحزب الله، ولا بتشكيله «حكومة حلب»، ولا برؤيته وزراء داخل مجلسه يُمشّطون طريق بيروت ــ دمشق ذهاباً وإياباً من دون أن يكون لاعتراضه أي أثر. الأمر أيضاً مرتبط بظهوره غير راغبٍ في مجاراة الولايات المتحدة والسعودية في حربهما ضدّ حزب الله، ومن خلفه سوريا وإيران. من هذه الخاصرة «الرخوة»، يُحاول خصوم الحريري الانقضاض عليه في المناطق، وطرابلس واحدة منها. ولكن بالنسبة إلى مُنسّق عاصمة الشمال في «المستقبل» ناصر عدره، «الرأي العام يفهم ما يحصل. أغلب الناس، ومنهم كوادر اعترضوا سابقاً، باتوا اليوم مقتنعين بأنّ الحريري كان مُحقّاً بالإقدام على التسوية الرئاسية، فقد تصرف كرجل دولة»، سائلاً: «ما هي الرؤية البديلة لمن ينتقدنا؟ كلّهم يتصرفون وفق منطق قم لأجلس مكانك». بالنسبة إلى عدره تياره «يقف إلى جانب الناس، والعديد منهم باتوا يعودون إلينا بعد أن لجأوا سابقاً إلى ريفي».
لا يُنكر عدره وجود «شحّ خدماتي، فنحاول أن نخدم قدر المستطاع»، إضافة إلى وجود مشكلة في تأمين الوظائف، «لارتباط ذلك بالآلية المتّبعة في الدولة». ولكن، وضع تيار المستقبل التنظيمي «بات أفضل مما كان عليه قبل سنة، نتيجة ارتفاع نسبة العمل الجدّي، ووجود وجوه جديدة والمواكبة الأكبر لحاجات الناس». وجود أحمد الحريري في طرابلس «انعكس إيجاباً على الطرابلسيين الذين يُفضّلون التواصل المباشر مع القيادة»، مع العلم بأنّه في كلّ مرّة يصل فيها أحمد الحريري إلى المدينة الشمالية، كان يصدر بيانٌ اعتراضي ضدّه، ولم يظهر بعد مردود خطواته الإيجابي. يردّ عدره بأنه «لو لم يكن حضور الشيخ أحمد مؤثراً، لما كان أحد انزعج منه»، فضلاً عن «أننا نُتابع العديد من الطلبات معاً لحلها».
لا يزال موضوع التحالفات ضبابياً، «وحتى الساعة لا نزال وحدنا». بالنسبة إلى الناخبين العلويين، التواصل موجود مع «فعاليات في جبل محسن، ولكن ليس الحزب العربي الديمقراطي الذي يدّعي تمثيل الأكثرية في الجبل». أما بالنسبة إلى الأحزاب ذات التمثيل المسيحي الأكبر، «فلا يزال السؤال سابقاً لأوانه». حتى القوات اللبنانية «لا يوجد بعد قرار بالتحالف معها من عدمه»، يقول عدره.




«أبو العبد» رافعة المستقبل


الحديث عن «المستقبل» في طرابلس ينقسم إلى قسمين: عمل المنسّقية، و«حالة» الوزير محمد كبارة. الأخير هو عميد النواب الطرابلسيين، ولم تتوقف خدماته الشخصية من بداية عمله السياسي. يُعرف عنه علاقته بـ«الشعبيين»، ما يعوّض نقص «المستقبل» في هذا الملعب، خاصة أنّه يُنظر إلى النائب سمير الجسر على أنه «نخبوي». صحيح أنّ كبارة (أبو العبد) لا يُعتبر «حالة حريرية»، ولكن عمله للحصول على المقعد النيابي مرّة جديدة (حتى الساعة لا يظهر أنه سيُرشح نجله كريم عوضاً عنه) يصبّ في مصلحة الوجود المستقبلي في طرابلس. وهو حالياً يعتبر نفسه «مديناً» لرئيس الحكومة سعد الحريري بعد أن سمّاه إلى وزارة العمل. يقول منسّق التيار في طرابلس ناصر عدره إنّ «أبو العبد جزء من كتلة المستقبل وهو حليف لنا. حالته الشعبية مُكملة للمستقبل». ولو أنّ المنسّقية ترى أنّ الجسر هو مُمثل «المستقبل» كونه حزبياً، «ولكن كلنا نُسهم في شدّ العصب الشعبي». التكامل الذي يتحدث عنه عدره قد يصل إلى مفترق طرق مع القانون الانتخابي الجديد، ونظام الصوت التفضيلي، حيث إنّ التنافس انتقل إلى داخل اللوائح بين المرشحين. وفي هذه الحالة، يُتوقع أن يحصل كبارة على النسبة الأكبر من الأصوات التفضيلية. يرى عدره أنّ «لدينا القدرة على توزيع الأصوات، وهذا يندرج ضمن عملنا الانتخابي».