في غمرة السجال حول «حروب الجرود»، ومن هو صاحب الإمرة في فتح النار و«غزو» الاراضي التي يحتلها إرهابيون يهدّدون اللبنانيين بشتى أنواع القتل: اغتيال بالرصاص، وذبحاً، وخنقاً، وشنقاً، وسحلاً، فضلاً عن هتك الأعراض والسبي وبيع النساء في أسواق النخاسة،بل من يسمح للمقاوم، ابن هذه الارض، بأن يهبّ من أجل الدفاع عنها وقد رضع مع حليب أمه متعة تقديس ترابها ونشأته على واجب افتدائها بروحه، وتضميخها بدمه.

وكأن صورة الإرهابي الذي يتأبّط «فتوى بالقتل»، بل بالإبادة، وخصوصاً للصليبيين والصفويين وسواهم ممن يخالفونه في الرأي والعقيدة ــ كأن هذه الصورة غير كافية لاستنهاض هذا المواطن اللبناني وصيرورته شهيداً، من دون إذن من أحد!!؟
في غمرة السجال حول من تنطبق عليه مواصفات «الشهيد»، ومن يعتبر «قتيلاً» تماماً كذلك الذي يسقط عن سقالة بناء أو يقضي في حادث سير، يدعو رئيس الهيئة التنفيذية في «القوات اللبنانية» سمير جعجع الى قداس تذكاري سنوي في معراب على أرواح «شهداء المقاومة اللبنانية».

«لبنان الكبير» لا يزال يحبو!؟

ويصادف احتفال هذه السنة ذكرى مرور سبع وتسعين سنة على إعلان «دولة لبنان الكبير» عام ١٩٢٠ من جانب الدولة الفرنسية، وحيث يظهر بوضوح، بعد مرور قرابة عشرة عقود، أن «الخلطة» الفرنسية لموارنة الجبل ودروزه بمسلمي بيروت والأقضية الأخرى لم تؤدّ غرضها بإقامة مجتمع «متجانس»، حتى لا نقول منصهراً، كما تمنى الصحافي والسياسي والمفكر الرؤيوي غسان تويني في كتابه بالفرنسية «حروب من أجل الآخرين»، نظراً الى صعوبة ذوبان ١٨ «شعباً» في بوتقة موحّدة، على غرار البوتقة الأميركية. ولعل المادة التي كانت عصيّة على الذوبان، ولا تزال، هي مادة «الشعب الماروني»، الشعب الذي تشير أدبياته الى أنه «أمة» كاملة الاوصاف نزحت من إنطاكية وقورش، حيث تنسّك القديس مارون ليدفن لاحقاً في بْراد قرب حلب، كذلك من حوران وخبب ومناطق سوريّة أخرى هرباً من الإبادة على أيدي نصارى آخرين بتهمة اعتناق أبنائه عقيدة تقول بالطبيعة الواحدة ليسوع المسيح، وهم منها براء، وقد استشهد جرّاءها، على أيدي من عرفوا بـ«اليعاقبة»، قرابة ثلاث مئة وخمسة وستين قسيساً ذبحاً، فارتعبوا وتوجهوا الى جبال لبنان، تماماً كما لجأ الى لبنان من سوريا منذ عام ٢٠١١، مع بداية الحرب هناك، مسيحيون من حلب، وحمص، ووادي النصارى، ودمشق، ومعلولا، وصيدنايا وسواها هرباً من الإبادة «الاسلاموية» هذه المرة، والذين حلّوا مكان اليعاقبة. وكان مطلب اللاجئين الأوائل الى الجبل الذي حضنهم مزدوجاً: الأمان والطعام.
وقد أساء العثمانيون، جدود داعش، معاملة المعتصمين بالجبل. وكان هؤلاء يخافون النزول الى المدن، وخصوصاً بيروت، حيث كانوا «يصادرون» ويتحولون للعمل بـ«السخرة» في المنازل، يكنسون ويغسلون الارض، من دون أجر، ثم توضع على ظهورهم سلال لمرافقة أصحاب المنازل كعتالين الى أسواق الخضر والفاكهة، على ما ورد في كتاب «نكبات بلاد الشام». بل أكثر من ذلك، فإذا أرادوا العودة الى الجبل عليهم السير الى يسار الطريق، على الخط المخصّص للدواب والمواشي، وعليهم ان «يطورقوا»، أي أن يطأطئوا رؤوسهم.

الفصل لم يوحّد اللبنانيين

ولم يجد قناصل الدول الكبرى التي وضعت أيديها على لبنان، إثر المذابح عام 1840، سوى الفصل بين المسيحيين والدروز بما يؤمّن للموارنة بينهم، خصوصاً، البقاء في هذه البقعة من بلاد الشام، بعدما رويت مناطق عدة منها بدمائهم، فكان مشروع القائمقاميتين الطائفي الذي فشل، لأن المطلوب لم يكن الفصل بين الجماعتين، بل وقف التدخل الأجنبي في شؤون الجبل، والكفّ عن تحريض جماعة على أخرى خدمة لمصالحه. وقد كشف الباحث الإنكليزي جيمس بار في كتابه «خط في الرمال» الذي صدر عام 2011 عن تقسيم المنطقة بموجب اتفاق سايكس ــ بيكو بين الفرنسيين والانكليز، بعد انهيار الدولة العثمانية، أن الفرنسيين طلبوا من اليونانيين عام 1914 تهريب 15 ألف قطعة سلاح الى المسيحيين للقيام بانتفاضة في وجه العثمانيين، لتشكّل مبرراً لتدخل فرنسي يسبق الإنكليز الى بلاد الشام، ولم يوضح ماذا حل بهذا السلاح أو لمن بيع!
ثم كانت المتصرفية خطوة خجولة نحو التعايش من خلال إنشاء مجلس إدارة تمثلت فيه الطوائف بطريقة متساوية بمعدل مندوبين اثنين لكل طائفة. وقد تم فيه الاعتراف بوجود الشيعة، وللمرة الاولى، كطائفة موجودة ومستقلة عن السنّة الذين كانوا يختزلون المسلمين تحت حكم الخلافة العثمانية. ودأب الاستاذ ميشال إده على إعطاء تكوين هذا المجلس دليلاً على عدم الأخذ تاريخياً بفكرة العدد في إدارة الحكم...
الى أن قرر الفرنسيون إنشاء كيان ذي «مسحة مسيحية» على ما قالت الباحثة الفرنسية في شؤون العلاقات بين الجماعات الطائفية في بلاد الشام إليزابيت بيكار. هذه المسحة التي سقطت، في نظرها، باتفاق الطائف، في وقت كان فيه غلاة المسلمين متمسّكين بالوحدة مع سوريا. وقد أكدوا ذلك في «مؤتمر الساحل» الذي عقد عام ١٩٣٦ في منزل أبو علي سلام.
وقد ندب الفرنسيون أنفسهم على لبنان بغية تطبيع «زواج المتعة»، بل الغصب، بين طرفين لا يحب أحدهما الآخر، الأمر الذي أوجد «عطباً» في التركيبة التي قامت على سلبيتين: لا مقر في لبنان للاستعمار ولا ممر، ولا شرق ولا غرب، بمعنى أن يتخلى المسيحي عن المطالبة بالحماية الأجنبية، في مقابل امتناع المسلم عن المطالبة بالانضمام الى الوحدة العربية. وقد عقد ميثاق وطني، على هذا الأساس، التزم المسيحي بما تعهد به، فقطع علاقته بالغرب وتوجه شرقاً، في حين استمر المسلم في الارتباط بالأحلاف الشرقية، عربية كانت أو إيرانية، وشجّع بعضها أخيراً على إقامة إمارات متشددة على حساب وحدة البلاد.

«ظاهرة بشير» ومشروع «الدولة المسخ»

وتدور الأيام فيغتصب الصهاينة فلسطين عام ١٩٤٨ ويشردون أهلها، ويهزم الاسرائيليون العرب في حرب حزيران ١٩٦٧، ثم تندلع الحرب العبثية في لبنان عام ١٩٧٥، ويبدأ المسيحيون بتقديم الشهداء دفاعاً عن لبنان الـ١٠٤٥٢ كيلومتراً مربعاً، والذي رفع شعاره الشيخ بشير الجميّل، قائد «المقاومة المسيحية». ويومها سألني الأستاذ غسان تويني رأيي في «ظاهرة بشير»، فأجبته «إن نجاح هذه الظاهرة يقررها الشهداء، وكلما ارتفع منسوب هؤلاء في الخندق المسيحي تأكدت زعامة بشير واقترب مشروعه من التحقيق، وهو إقامة كيان يوفّر الأمان والاستقرار للمسيحيين». وذات يوم من عام ١٩٧٦ اتصل بي أحد مساعدي بشير ليقول «إن الشيخ بشير يسألك رأيك في إقامة دولة مسيحية، بعد انهيار مخيّم تل الزعتر، آخر معاقل الفلسطينيين»، فكان جوابي: «بلّغ الشيخ بشير تحياتي وقل له إن مثل هذه الدولة يقرّرها الشهداء الذين بذلوا دمهم من أجل الـ١٠٤٥٢ كيلومتراً مربعاً، وهي مساحة دولتهم، ولن يرضوا بكيان مسخ سيكون أخطر من الكيان الصهيوني، يمتد من خليج جونية الى قمم جبل صنين، مروراً بزحلة». وكان الآباتي بولس نعمان، الأب الروحي لـ«المقاومة المسيحية»، قد نقل عن الشيخ بشير أنه «يريد إقامة دولة للمسيحيين وللآخرين الراغبين في العيش معهم».

عقدة «العيش معاً» كشعب متجانس

وهذا ما ذكّرني بجارة لي في حيّ مختلط في إحدى ضواحي زحلة، يغلب عليه العنصر الشيعي، كانت ترسل أولادها في عطلة الصيف الى مصيف ذويها في عاليه من أجل الحؤول دون اختلاط أولادها بأولاد الجيران، ومبررها لذلك: «هودي جماعة ما بينعاش معهم، بسبب شكلهم ولباسهم واللغة يلي بيحكوها وفيها الكثير من العبارات ما بريد ولادي يسمعوها». العيش معاً، واليوم بعد ٩٧ سنة من العيش معاً، لا يزال هناك من يقول للآخر، وإن في سرّه: «إنت ما بينعاش معك»، ومن أجل ذلك قسّمت الارض محميات وإمارات، بما فيها الجرود، ورسمت حدود الدفاع عنها: جرود عرسال هي للسنّة، ولا بأس إذا بقيت محتلة من إرهابيي داعش «نسور الحرية» على أن يحررها مقاومو الشيعة. وجرود القاع والفاكهة ورأس بعلبك هي للمسيحيين، ويجب ألا يحررها الشيعة الذين تنحصر مهمتهم في جرود الهرمل واللبوة وبريتال وحورتعلا إلخ....
من يخون الشهداء؟
والآن ماذا نقول للشهداء الذين حرّروا الجرود ورووها بدمائهم؟
هل نقول لهم: «إنكم مجرد رقم يضاف الى أرقام ضحايا حوادث السير»؟
وماذا لو قلنا لهم: «إننا آسفون لأن دماءكم ضاعت سدى، وإنكم تعرضتم لعملية خداع فأوهمكم من دفعكم الى الموت أنكم إنما تدافعون عن تراب الوطن»؟
الجواب وجدته في عدد من مجلة «الغدير» احتفظت به لأَنِّي أسهمت بمقال فيه عن المقاومة. ففي هذا العدد مقابلة مع الإمام السيد محمد مهدي شمس الدين، نائب رئيس المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى آنذاك، رحمه الله، الذي يُسأل رأيه في «لبنان كوطن نهائي»، فيجيب بأن العبارة «اختراع مسيحي لاختبار مدى وطنية المسلمين. وفي رأينا ان الوطن الذي يستحق ولاءنا والنهائية هو الارض التي يدفن فيها أهلنا وأجدادنا وشهداؤنا، فيصبحون جزءاً من ترابها. وأنا وعائلتي، مثلاً، وطننا النهائي هو جزين حيث رفات أهلي وأجدادي».
سهرة في «قاعة الشموس» احتفالاً بـ«التحرير الاول»
وكنت قد وجدت صيغة اعتبرتها أفضل، وخصوصاً للشهداء ليلة ٢٥-٢٦ أيار ٢٠٠٠، من وحي التحرير وجولة الآليات الإسرائيلية التي غنمها المقاومون من القوات المنهزمة أمام بطولات المقاومة، وطافوا بها في بيروت، ولا سيما في الأشرفية، فتصورت السيناريو الآتي:
«قاعة الشموس» في الجنة تغصّ بالشهداء، كل الشهداء، الذين وحّد الفداء أرواحهم فتوافدوا لمشاهدة نقل حيّ للاحتفالات بالتحرير على شاشة عملاقة، وكانت الآليات الإسرائيلية المصادرة تجوب شوارع بيروت وتمر خصوصاً في الأشرفية.
والتفت أحد الشهداء الى الخلف، وسأل رفيقاً له: «أنت لماذا استشهدت؟».
فأجابه: «من أجل أمن المجتمع المسيحي».
وسأله: «أين؟ في هونولولو؟».
فأجاب: «لا، في لبنان، ومن الـ١٠٤٥٢ كيلومترا مربعاً».
فقال له: «تساوينا إذاً، فأنا أيضاً استشهدت من أجل تحرير جزء غال من هذه المساحة في الجنوب والبقاع الغربي».
فعلق الشهيد المسيحي: «إذاً نحن استشهدنا من أجل أرض واحدة، وقضيتنا إذاً واحدة».
ثم التفت الشهيد الجنوبي الى رفيقه الجالس أمامه وسأله: «وأنت لماذا استشهدت؟»
فأجابه: «من أجل تثبيت عروبة لبنان».
فسأله مجدداً: «تعني من أجل عروبة الـ١٠٤٥٢ كيلومتراً مربعاً؟». فأجابه: «أكيد».
وعلّق شهيد آخر، كان يتابع المحادثة: «هل خدعنا إذاً؟ فَلَو عرفنا أن قضيتنا واحدة لما تواجهنا وقتل أحدنا الآخر، لا في البوسطات، ولا على الحواجز».

نحو «ميثاق دم» بعد «التحرير الثاني»

إننا اليوم نطالب، رحمة بالشهداء، بوقف المتاجرة بدمائهم، ونقترح موتمراً وطنياً جامعاً لأسر جميع الشهداء، يؤسّس لقرن جديد تظلله أرواحهم التي وهبوها لوطنهم ليبقى ويستمر شامخاً، رافع الرأس مفتخراً بأنه الوحيد الذي حرر أرضه بسواعد أبنائه من أكبر جيش متجبّر في العالم، ومن أعتى قوة إرهابية، تكفيرية، متوحشة اجتمع أعداء الحق والعدالة وحقوق الشعوب في السيادة والحريّة على دعمها، على أن يؤدي المؤتمرون قسم الولاء للشهداء، وعدم خيانة تضحياتهم وهم الذين رووا أرض لبنان بدمائهم، ويطالبون اليوم شعبهم بأن يتوحّد حول أرواحهم التي لم تبرح الارض التي حضنتهم، على أن ينبثق من هذا المؤتمر ما يمكن أن يطلق عليه «ميثاق الدم» الذي سيكون أصدق من ميثاق الحبر والورق. وهو الميثاق الذي سيدخل معه اللبنانيون القرن الجديد وقد استحقوا أرضهم بالدم، وان عليهم أن يحافظوا عليها بكل الوسائل، لأن صراعهم على السماء يكاد يفقدهم الارض، على ما حذّر أنطون سعاده، طليعة موكب الشهداء.
* صحافي وباحث سياسي