«بالنسبة إلى النظرة المادية للتاريخ، فإن العامل المحدد في التاريخ هو في النهاية إنتاج وإعادة إنتاج الحياة نفسها»فريديرك إنجلز

في 5 آب، كانت الذكرى الـ 122 لوفاة فريديريك إنجلز المفكر والمحارب، الذي كان لربما الوحيد في تاريخ الفكر الإنساني الذي ارتضى لنفسه أن يحتل المرتبة الثانية في مسيرة التعاون العلمي، وذلك في الرحلة الفكرية العظيمة مع رفيقه وصديقه كارل ماركس، وهي الرحلة التي صعقت القرن التاسع عشر وفجّرت القرن العشرين.

قال إنجلز يوماً «إن ماركس عبقري، أما نحن فعلى الأكثر موهوبون». في 15 تموز الماضي، رُفع تمثال لإنجلز في مانشستر، المدينة التي أدار بها لمدة عشرين عاماً، عن مضض، مصالح أبيه في شركة إيرمن وإنجلز، أهم شركات النسيج في إنكلترا وألمانيا. ذهب إنجلز الى عمل كرهه حتى يتسنى لماركس الوقت للعمل ليل نهار على بناء المنظومة العلمية التي غيّرت العالم. تقول إليانور ماركس إنه في عام 1869، بعد أكثر من عشرين عاماً على ثورات 1848 وعلى «البيان الشيوعي»، «كنا ننتظره على البوابة ليعود من مكتبه لآخر مرة. رأيناه آتياً يمشي في الحقل الصغير المقابل للمنزل. كان يلوّح بعصاه في الهواء يغني، ووجهه يشع بالحياة. ومن ثم حضّرنا الطاولة للاحتفال وشربنا الشمبانيا وكنا جميعاً سعداء». كان إنجلز فرحاً لأنه تخلى وباع حصته في الشركة، بأقل من قيمتها، ما إن تسنى له ذلك، وبعدما اطمأن الى أن «رأس المال» قد نشر وأن الفكر الاشتراكي أصبح علماً: «لآخر مرة» قال لإليانور وهو يهمّ للذهاب الى مكتبه في صباح ذلك اليوم الأخير من العمل كـ»رأسمالي».
إن إقامة تمثال لإنجلز في مانشستر في 2017 دفع الكثيرين إلى التساؤل عنه، عن فكره، وعن حياته، وعن ذلك الرجل الذي ارتضى العيش في الظل لأكثر من عشرين عاماً، وارتضى أن يكون الرجل الثاني كل حياته. من كان إنجلز؟ وكيف انتقل ابن العائلة الصناعية الوارثة الى الشيوعية؟ وما أهميته اليوم؟ أسئلة لم تطرح كثيراً حول «جنرال ماركس»، وهو عنوان كتاب عن حياته، صدر في 2009 للمؤرخ تريستان هانت، وفيه الكثير عن الرجل الذي عاش تناقضات عصره؛ هذا «الرجل الثاني» الذي يُدين العالم له، من دون أن يعلم، بالكثير.
كان إنجلز عرضة للهجوم دوماً. البعض حتى من الماركسيين حاولوا أن يضعوا على بابه ما اعتبروه تجاوزات الاشتراكية المحققة في القرن العشرين. واعتبر البعض أن الستالينية كانت نتاجاً لتزمته ومحاولته إضفاء الصرامة العلمية والحتمية على «الماركسية»، بينما ذهب بعض هؤلاء يبحثون عن «ماركس الشاب» أو ماركس ما قبل «رأس المال» أي ماركس «الإنساني» الذي رأى أن العطب الأساسي في الرأسمالية هو اغتراب الإنسان عن نفسه والطبيعة وأخيه الإنسان وعمله ونتاج عمله.
في هذا الإطار، لا بد من التذكير بأن الجميع يعلم أن إنجلز كماركس كان في الفترة الأولى هيغيلياً شاباً، وحتى أفكار ماركس حول الاغتراب قدم لها إنجلز في مقالته عام 1843 «خطوط عريضة في نقد الاقتصاد السياسي»، التي أطلق فيها بدايات الاقتصاد السياسي الماركسي. لكن أول ما يبهرك في حياة إنجلز أصوله الرومنسية ولاعبيته (playfulness)، عكس ذلك الإنسان الذي يراه الناس صارماً في صوره وتماثيله، الديالكتيكي العلمي الذي يرى الديالكتيك يعمل في الطبيعة كما في التاريخ والمجتمع. وعلى الرغم من تخليه عن الفكر الرومنسي والهيغلية المثالية باكراً، إلا أن حياته استمرت تعكس رومنسيته الأولى، فكان مزيجاً من الانغماس في حب الأصدقاء والرفاق والنساء وحب الحياة الجميلة والاستمتاع بالصيد والطبيعة والبحر، من باريس الى لندن الى الشاطئ الإنكليزي، الى أرياف فرنسا التي قضى فيها وقتاً في استراحة المحارب بين معارك 1848 ومعركة إيلبرفلد في ألمانيا في 1849. كما يبهرك عمق إنسانيته. فهو كما يعلم الجميع وقف الى جانب ماركس وعائلته خلال حياة ماركس وبعد مماته. لم يتزوج إنجلز بسبب طبيعة حياته وبسبب موقفه من مؤسسة الزواج البورجوازية. لكن عندما كانت ليزي بيرنز صديقته البروليتارية الإيرلندية تودع هذا العالم على فراش الموت، وهي الكاثوليكية، أحّس بأن الذنب يعذبها لعيشها في الخطيئة معه فذهب وجلب كاهناً وتزوجها، هنا أيضاً تجلّت إنسانية إنجلز وتناقضه، وهو الذي كتب ضد الزواج، تلك المؤسسة البورجوازية القامعة للمرأة. وكان أيضاً بمقدار عناده ومواقفه في الدفاع عن الماركسية وفي العمل السياسي، سريع التخلي عن مصالحه الشخصية والمادية. عندما تخلى لأول مرة لإخوته، وهو الابن البكر، عن حصته بأقل من قيمتها الحقيقية، لأنه لم يرد لأي خلاف عائلي أن «يزعل» أمه المريضة، على الرغم من كونه المتمرد البعيد عن العائلة، بعث برسالة إليها قال فيها «أمي العزيزة، لقد تحملت كل هذا وأكثر لأنني لا أريد أي خلاف حول الورثة أن يكدر حياتك الآن. إنني أستطيع أن أحصل على مئة مؤسسة أعمال أخرىأ ولكن أبداً على أمّ ثانية».

قال إنجلز «الشيوعية هي مسألة للإنسانية وليست للعامل وحده»

بعد وفاة ماركس، بقي إنجلز الذي أصبح «الأول» الآن الصديق الوفي والأمين لفكره وعمله وعائلته. حمل إنجلز مهمات عدة، فعمل في الحركة الاشتراكية الصاعدة ليل نهار وتوج عمله في مؤتمر إرفرت في عام 1891 للحزب الديموقراطي الاجتماعي الألماني (SPD)، حيث حرص بقوة على ضمان هيمنة فكر ماركس على الحركة الاشتراكية الألمانية ونجح. وبذلك لم تعد الماركسية منذ ذلك الوقت «ديناً لفئة معزولة، بل إيديولوجية حركة سياسية قوية»، كما قال المفكر ليزيك كولاكوفسكي. وكان الاهتمام بعائلة ماركس محور حياته، فاستمر في الدعم المالي والعاطفي كالأب الثاني لهم ودافع بشدة عنهم، وحتى عن أزواج بنات ماركس أمام منتقديهم السياسيين والشخصيين ولو أخطأوا؛ وأخيراً، كان شغله الشاغل أيضاً الاهتمام بإرث ماركس فعمل على إصدار المجلّدين الثاني والثالث من رأس المال في 1885 و1894 على التوالي. والمجلد الثاني كلفه صحته، إذ عمل عليه من صيف 1883 حتى ربيع 1885 بدون كلل وأدى الى مرض مزمن في عينيه منعه من القراءة إلا في ضوء النهار.
كان إنجلز منذ البداية سباقاً في سبر المواضيع علمياً، وكشف في الوقت نفسه إرهاصاتها السياسية والتحررية. فمن وصفه الرائع والتفصيلي لمانشستر في أربعينيات القرن التاسع عشر في كتابه «حالة الطبقة العاملة الإنكليزية» الصادر عام 1845، ووصفه الحالة المزرية السالبة للعامل من إنسانيته وتحويله الى حالة وحشية، استطاع إنجلز أن يجابه فكره الهيغيلي التغييري على مستوى الوعي مع الواقع اليومي للرأسمالية، فكانت مانشستر الحقل التجريبي أو المختبر الذي انبثقت منه الماركسية. وهنا في خضمّ هذا المستنقع الآسن للرأسمالية الصناعية التي كانت تحطم الطبقات العاملة وتفصلها مادياً ومكانياً عن الطبقات البورجوازية التي تستغلها، رأى إنجلز في الشيوعية تحريراً للإنسانية أيضاً من هذا الاستغلال عندما قال «الشيوعية هي مسألة للإنسانية وليست للعامل وحده». بعد إطلاقه شرارة الماركسية، قدم إنجلز إسهامات واختراقات أولى في الدراسات المكانية وتحرر المرأة الحقيقي في الاشتراكية وفي الأنثروبولوجيا وفي المادية التاريخية وفي الديالكتيك المادي. وكانت كتاباته التي نشرت لاحقاً تحت عنوان «ديالكتيك الطبيعة» أساسية في توسيع دائرة البحث في دور قوانين الحركة الديالكتيكة من التاريخ الى الطبيعة نفسها، والذي اعتبر البيولوجي التطوري الشهير ستيفن جاي جولد أن الفصل الذي يبحث في دور العمل في التطور الفصيلي، بدلاً من دور للدماغ، إحدى أهم الكتابات الفرعية الداروينية في القرن التاسع عشر.
في كتابه «أنتي دوهرنغ» الذي صدر عام 1878 الذي يعتبر مدماكاً أساسياً في وضع أسس الاشتراكية العلمية والعمل الأكثر تأثيراً في جيل كامل من الماركسيين في الوقت نفسه، برهن إنجلز عن قوته الفكرية الخارقة. يقول كارل كاوتسكي «إذا أردت الحكم من تأثير أنتي دوهرنغ عليّ، فإن هذا الكتاب كان له الأثر الأكبر في فهم الماركسية. إن رأس المال كان العمل الأقوى بالتأكيد. ولكن فقط من خلال أنتي دوهرنغ تعلّمنا أن نقرأ ونفهم رأس المال».
على الرغم من الاتهامات بالدوغمائية و»العلمية» له بسبب أنتي دوهرنغ وكتاباته حول ديالكتيك الطبيعة، إلا أنه لم يكن دوغمائياً إطلاقاً. فعندما يتبدل الواقع، كان إنجلز يحلل ويستنبط كعالم متواضع. وفي هذا الإطار، رأى في التغير السياسي الذي حصل في أواخر القرن التاسع عشر في ألمانيا من حيث ازدياد قوة حزب SPD انتخابياً ومن حيث تمثيله المتزايد للبروليتاريا طريقاً محتملاً نحو الاشتراكية قد لا يتم عن طريق الثورة المسلحة، على الرغم من الحاجة الى احتفاظ الحزب بالجهوزية الدائمة لاستعمال القوة سياسياً.
في كتابه «أصل العائلة» أسس للنظرة الاشتراكية التحررية للمرأة. وقد كان لفكره الدور الأساس في سياسات الدول الاشتراكية المحققة من قوانين وإنفاق الموارد على تحرر المرأة. في مقال أخير في جريدة النيويورك تايمز في 12 آب بعنوان «لماذا المرأة تمتعت بحياة جنسية أفضل في ظل الاشتراكية»، تقول الكاتبة كريستين جودسي «إن المرأة في دول الكتلة الشرقية تمتعت بحقوق وامتيازات لم تكن موجودة في الدول الليبرالية الديموقراطية آنذاك، ومن ضمنها استثمارات حكومية كبرى في التعليم والتدريب، وإدخال الإناث كلياً في القوى العاملة، وإجازات أمومة سخية ورعاية للأطفال مضمونة ومجانية». هذا هو التحرر الحقيقي الذي بنى أسسه إنجلز. وهنا نستطيع أن نرى بوضوح كيف يتجلى التقاء العلم والتحرر في الاشتراكية. فتحرر المراة لا يمكن أن يأتي عبر الحركات النسوية الفئوية والتي أخذت اليوم شكلاً «ضد المجتمع» و»ضد الرجل»، وهي تقبل بالرأسمالية ما دامت تستطيع تأكيد حقوقها الفردية. هذه الحركات تمارس سياسات الهوية (identity politics) السيئة لـ»اليسار الثقافي»، الذي أقل ما يقال فيه إنه أضاع البوصلة العلمية التي أرساها إنجلز، حيث لا تحرر لفئة من دون تحرر المجتمع وأخذه جماعياً قرارات كحشد الموارد لإيجاد سبل تحرر الجميع، والأمر الأخير بالتأكيد أمر لا يفهمه أو لا يكترث له اليسار الثقافي الأناني والأعمى، وهو يقع في أحضان اليمين. في هذا الإطار، قال ستيف بانون، المستشار السابق لترامب، وأعتى عتاة اليمين الأميركي « إذا استمر اليسار بالتركيز على العرق والهوية وذهبنا نحن الى القومية الاقتصادية، فسنستطيع سحق الديموقراطيين».
تمثال إنجلز نقله فنان بريطاني اسمه فيل كولينز من أوكرانيا، التي على الرغم من أن حكومتها الفاشية أزالته، ودّعته على حدودها فرقة أطفال موسيقية واستقبل بحفل موسيقي في برلين. وأخيراً أزيحت الستارة عنه في احتفال في مانشستر. هكذا كانت رحلة عودة إنجلز الرمزية، ليس فقط الى المكان الذي انطلق منه منذ أكثر من 170 عاماً، بل الى القرن الواحد والعشرين؛ هذا القرن الذي نشهد فيه عودة الاشتراكية الى الحيوية وتجلي نظرة إنجلز العلمية لتطور التاريخ، إذ إن تقدم التكنولوجيا يفتح آفاق التحرر الإنساني، على أمل أن الرومنسية وحب الحياة المتجددة بين الشباب في أنحاء العالم، وهو الحب الذي تمتع به إنجلز نفسه، سيكون روح الاشتراكية القادمة. في هذا العمل الرمزي، وفي ما يحدث في الرأسمالية اليوم نُعطى بعضاً من الراحة عندما نتذكر هذا الإنسان الذي مات من دون أن «يطل على القرن العشرين» كما كان يتمنى، وترك إرثاً من أكثر من 4 ملايين دولار، بقيمة اليوم، لبنات ماركس وأحفاده وللويز طليقة كاوتسكي وبابمز قريبة ليزي بيرنز ولدعم مرشحي الـ SPD في الانتخابات، طالباً نثر رماده في البحر على الشاطئ الإنكليزي، الذي أحب لأنه في الممات كما في الحياة أراد أن يكون صديقه كارل ماركس هو المتقدم. فهكذا عاش، وهكذا رحل المضحي الأكبر الذي قلّ نظيره؛ وها هي روحه تعود اليوم الى المدينة التي فيها رأى بشاعة الرأسمالية، لكن في الوقت نفسه بذور حرية الفرد والإنسانية جمعاء التي، وإن تأخرت مئة عام، إلا أنها كما اعتقد وبيّن «الجنرال» آتية لا محالة.