مع تحرير «المقاومة الإسلامية» أجزاءً من جرود عرسال، من براثن «جبهة النصرة»، ارتفعت مرآة ضخمة في عرسال لا يكاد يخطئها أيّ زائر للبلدة المصابة بلعنة الجغرافيا ولعنة الإهمال الحكومي ولعنة الشيطنة في الإعلام. في المرآة وجوه مترقّبة وعاتبة ونادمة... ومكابرة: يترقّب الأهالي ترجمة مضمون خطاب الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله الداعي إلى تسليم الأراضي التي حرّرها الحزب، «بأسرع وقت»، للجيش، تمهيداً لاسترجاعها من قبل الأهالي، إذ تقبع فيها مساحة تحضن أرزاقهم من الأشجار المثمرة. كذلك يترقبون العودة إلى مقالعهم، العمل الذي انقطعوا عن أدائه مكرهين، بعد سيطرة «جبهة النصرة» عليها. ويعتبون على تأخر القرار السياسي في دحر «حركات التكفير» من «الجرود» بعدما عاثت فساداً في بلدتهم واستباحت منازلهم وأزهقت الأرواح.يندمون على تسليم قرارهم السياسي لمن جعل البلدة مرتعاً للإرهاب، وغذّى «الأحلام» بإسقاط الرئيس السوري بشار الأسد سريعاً بعد «الثورة السورية»، التي استغلت بيئتهم الحاضنة و«زرعت» فيها ما جاء بوبال عليهم. في أحاديث الأهالي عوارض «رهاب» من تبعات تصريح وزير الداخلية نهاد المشنوق أن «الأرض في جرود عرسال متنازع عليها»، ولو أنّ المشنوق تراجع عنه سريعاً في حلقة كلام الناس (الخميس 5 آب 2017)، على شاشة «ال بي سي آي».

وفي تعليقات البعض أن الأمر «غير بريء»، و«قد يمهّد إلى ما لا تحمد عقباه، ويهدّد ملكيتهم للأراضي التي أقرّ الانتداب الفرنسي بلبنانيتها منذ 1920 (و1933)». يشدّدون على إثارة هذا الموضوع، خوفاً من تحوّل أراضيهم إلى «مزارع شبعا ثانية»، مذكّرين بأن النائب جمال الجرّاح كان يرافق الوفود الإعلامية ليشرح لها في عام 2005 عن جودة ترسيم الحدود اللبنانية السورية، الأفضل في لبنان، في حين أنه اليوم يجد نفسه في مواجهة «أراض متنازع عليها» لأسباب سياسية.
وفي الأحاديث أيضاً «سخرية» مرّة من مآل الوعود بالمشاريع الخدماتية، على لسان الرئيس سعد الحريري سنة 2014. التاريخ الشاهد على مراجعة العراسلة لموقفهم السياسي، بعدما تفلتت ساحتهم، وأصبح بعض الوجود السوري فيها يجرّ الويلات عليهم، ولا سيما عندما احتل المسلحون الإسلاميون البلدة، واقتحموا فصيلة الدرك، واتخذوا عناصر من بينهم رهائن، وما تبع ذلك من خسائر في صفوف الجيش اللبناني والمدنيين من العراسلة.
لا تشبه عرسال اليوم الأمس؛ بين زيارتين، الأولى سنة 2014 والثانية قبل أيام، بدا لافتاً حجم التدقيق الأمني في هويات العابرين. اليوم، تواجه صعوبةً في دخول البلدة، وتتعدّد استفهامات عناصر حاجز الجيش عن سبب الزيارة. وعندما تثير الإجابات الشكوك، يكاد الدخول يصبح ممنوعاً لولا تدخل «الحظ السعيد»، ما يسمح بمتابعة المسير صعوداً بعد جملة من التعهدات. بيد أنه في سنة 2014، كان العنصر الرابض على حاجز الجيش قليل الحرص على السؤال عن القصد من الزيارة، ولم يشتبه في سيارة «غريبة» عن البلدة وراغبة في دخولها، إثر أيام معدودة من التفجير الإرهابي قرب سرايا الهرمل (16 كانون الثاني 2014) الذي تبنّته «جبهة النصرة»!

يندم العراسلة على تسليم قرارهم السياسي لمن جعل البلدة مرتعاً للإرهاب


خلال الرحلة الأولى، كان التجوال في بعض مخيمات النزوح في البلدة يتيح الاستنتاج بوضوح أن البناء من الباطون المعدّ لإيواء النازحين في وسط عرسال يعني أن إقامتهم فيها ليست مؤقتة. أمس، كان دخول أيّ سوري أمراً غير محمود العواقب، تخوّفاً من ارتدادات انتقامية لترحيل المسلحين المؤتمرين بأمر أبو مالك التلي في الاتجاه السوري، في إطار الاتفاق الأخير بين حزب الله و«النصرة»، ولو أن في روايات العراسلة لفتة إلى إعلان النازحين المقيمين في البلدة ولاءهم للجيش اللبناني. وفي ذات البيوت غير المتراصة والشوارع الضيقة المطلَّقة من الزفت، لفتت الأنظار إشارة رجل عرسالي إلى أن المنظمات الدولية المكلفة إغاثة النازحين نصحت كثيرين بعدم مغادرة مخيمات «الجرود» في الحافلات وأغرتهم بمساعدات، مضيفاً أن 53 شاباً من العراسلة مطلوبين للعدالة أو من المبايعين لـ«النصرة» كانوا من ركاب الحافلات، وأن نزوح العراسلة عن بلدتهم خلال المعارك الأخيرة كان ضئيلاً، واقتصر على من يمتلكون بيوتاً في بيروت.
في سنة 2014، كان التعبير عن الانزعاج من التمدد الاقتصادي السوري في البلدة خافت النبرة، والكلام عن «اجتياح» الشبان السوريين ساحة البلدة إلى حدّ خفر الإناث من الخروج والتنقل في بلدتهم حتى في وضح النهار، يقال همساً. وكان السؤال عن السيارات المفخخة المنطلقة من البلدة يجابه بالاستنكار والتشكيك. ولكن اليوم يُطرح علانية اعتزام البلدية الحالية إقفال المحال التجارية والمطاعم السورية المفتتحة بصورة غير شرعية في البلدة، لتشجيعهم على الالتحاق بمواكب المغادرين. ويُسأل، من دون قفازات، عن «ماهية أخلاق الثورة السورية العظيمة، التي قابل بعض من أهلها الكنف العرسالي بإساءات بالجملة؟!».
في علاقة العراسلة بـ«حزب الله»، لا يزال يحزّ في النفوس إقدام «الحزب» على استبدال المرشح السنّي سليل الفاكهة بسليل عرسال على لوائح «المقاومة»، في حين أن تعدادهم السكاني (حوالى 45 ألف نسمة) يفوق ذلك الخاص بالفاكهة، مروراً بالشرخ السنّي الشيعي إثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
على شرفة علوية تطلّ على الجرود، بدت عرسال تحتها على هيئة كف يغري بقراءته مع مجموعة من أهل البلدة المتفاوتي المشارب السياسية. يخلص الرجال الذين خبر بعضهم الحرب الأهلية وشاركوا في مقاومة الاحتلال الاسرائيلي إلى أن انفضاض أجهزة الدولة عن عرسال ليس بريئاً من الحاضر الذي وصلت إليه. يفصلون بشكل واضح بين الدولة، غير الموجودة، والجيش الذي يشكل ملجأهم وضمانتهم الوطنية، على الرغم من بعض الملاحظات. رغم ذلك، لا يزالون يجدون في السلاح الفردي أمراً واقعاً لحماية الأعراض.
أما «الصلح» بين «حزب الله» والعراسلة، فأمر مطلوب، ويمهّد له أفراد من مجلس عرسال البلدي الحالي، وستعزّزه مسألة تسلم المزارعين أراضيهم في الجرود. ومع اختلاط دخان سجائر الـ«ميكادو» بالنسيم المخدّر للرأس، وعلى دويّ القذائف المتقطّع من جهة الجرود، لم نَعجب حين عرفنا أن عرسال شرعت في الإعداد للاستحقاق الانتخابي المقبل (النيابي طبعاً)، وأن أحد مرشحيها المحتملين هو الإعلامي عبد الرحمن عز الدين، ابن البلدة المقيم ببيروت، وأن استكمال الجيش معارك الجرود، في رأس بعلبك والقاع لدحر الإرهابيين، على اختلاف تسمياتهم، من «نصرة» و«داعش»... ورؤوس أمرائهم، شبه محسوم النتائج لمصلحة لبنان. وفيما كنا نقرأ في كف عرسال من علٍ، كان البعض يتأنّق لحضور حفل زفاف، فيما البعض الآخر يتساءل عن مستقبل بلدته، فيما لو أُخذ على محمل الجد تحذير وزير الدفاع السابق فايز غصن عن قاعدة لـ«القاعدة» في عرسال في أواخر 2011، بعيداً عن «مهزلة» 14 آذار التالية للتحذير، وحجّ نوابها زرافات إلى عرسال.




كلّهم مسؤولون عن شيطنتنا!

«ظُلم العراسلة من الإعلام بدأ منذ أن قاطعت وسائل الإعلام بالجملة البلدة، وأمست تنقل الأخبار عنها بالاتّكاء على روايات جيرانها»، يقول أحد العراسلة لـ«الأخبار»، مطالباً حاجز مخابرات الجيش اللبناني بالسماح للصحافيين بالدخول لكي يسمعوا صوت أهل عرسال، وحاثّاً مندوبي وسائل الإعلام على تقصّي الحقيقة. يتحدث الأهالي عن صورة ظالمة، جعلت العرسالي متّهماً في عيون أبناء وطنه، ينفضّون عنه أو يتأملونه طويلاً كمشتبه فيه سيفتح سترته ويفجّر نفسه بعد لحظات! ويسلط أحدهم الضوء على «الدور السلبي في تظهير ابن عرسال في صورة الملتحي المرتدي الثوب الباكستاني، أو اختصارها بـ«أبو طاقية»، الشيخ مصطفى الحجيري ذي العلاقات مع «النصرة»، و«أبو عجينة» رئيس البلدية السابق»! وينتهي إلى أن «كل أطراف الصراع السياسي في لبنان كان لهم مصلحة في شيطنة عرسال». نائبة رئيس البلدية، ريما كرنبي، اليسارية الهوى، والحاظية بثقة العراسلة، تقول بدورها لـ«الأخبار» إن «كل جهودها التي تصبّ في خانة إظهار وجه عرسال المشرق والملتف حول الدولة وأجهزتها لا تقابل بتغطية إعلامية». هي تأخذ على الإعلام أنّه «يقنّن في أخباره عن دعم العراسلة للجيش، كما في الثاني من آب حين انطلق الأطفال نحو مركز الأمن في اللبوة للتهنئة بعيد الجيش، وقبله وقبله...». ولكنها متفائلة بدور البلدية في تغيير الصورة المرسومة، وفي استثمار التحول الشعبي الحاصل جراء المستجدات في اتجاه تحسين العلاقة بـ«جيراننا».