في الطريق إلى الجنوب كل شيء يدل على ما تعرفه عن الجنوب. هناك الجديد دائماً، ولكن بشكلٍ عام الطريق تسبق الوصول. هناك الأعلام على الأعمدة الطويلة وهناك المحال في صيدا. الشاطئ في صور والزحمة المجانية قرب مخيّم البص. نزلة العين القوية في صريفا وتقاطع عين المزراب الشهير، ومعالم كثيرة أخرى.
كل شيء في مكانه. وهناك صور لشهداء تعرف العين في أيّ حربٍ سقطوا من أشعة الشمس. فإن تراجعت حدة ألوان الصور التي تحملها الألواح، فذلك يعني أن وقتاً طويلاً مضى على تعليقها. وهذه تدل إلى شهداء حِزب الله في حرب تموز قطعاً. وإن كانت صوراً عُلِقت حديثاً، فإن الألوان تكون أشد سطوعاً، والوجوه في الصور أشد وضوحاً. ويكون أصحاب الصور سقطوا في حربٍ قريبة وفي بلادٍ قريبة أيضاً. بشكلٍ عام لا يميّز الحزب بين شهدائِه، وفي أحيانٍ كثيرة لا يشير الذين يرفعون الألواح ليتذكروا أبناء قراهم إلى أسماء المعارك أو أماكنها. بالنسبة إلى الحِزب، الشهداء هم شهداء، وبالنسبة إلى أهل القرى، الراحلون هم راحلون. وبشكلٍ عام، ينسحب هذا على خطاب الحزب الرسمي، الذي يعتبر جميع المعارك معركة واحدة، وجميع الشهداء ينتمون إلى عائلة واحدة.
بعد الأوتوستراد السريع تبدأ البيوت. صغيرة ووديعة حتى عندما تتسع أو تعلو. غالباً ما تكون حولها أشجار لا تستأذِن أحداً في الارتفاع. بيوت شيّدها عمّال جنوبيون وسوريون. وغالباً ما تنجب البيوت في الجنوب شهداء أنفقوا أعمارهم في الحروب وصرفوا جهوداً للدفاع عن البيوت. لكن ما يميّز هذه البيوت ليس ساكنيها فقط، وليس أشجارها، ولا رهط الأوصاف الشِعرية كلها هذه. ما يميّزها بالنسبة إلى المعماري الجنوبي، إلى مكانها وتعلّق أهلها بالأرض التي شيّدت عليها، ما يميّزها هو أحجارها. أحجارها الصلفة التي يأتي بها سائقون على دفعات من أماكن بعيدة. نتحدث هنا عن العرساليين، أو العراسلة. عن السائق الذي يوقف الشاحنة ليشرب القهوة، ويبتسم بعد حصوله على القهوة. يحصي الكيلومترات المتبقية، ويبتسم عندما ينتبه أنها أقل ممّا كانت عليه قبل نصف ساعة. يمسك الهاتف في الزحمة، ويكتب رسالةً قصيرة بلهجةٍ ثقيلة، ثم ينتظر جواباً قصيراً، أو رسالةً صوتية تأتي من مكانٍ بعيد. يرفع عينيه متفاجئاً عندما تمشي السيارات أمامه، ويعرف الطريق أكثر من تطبيقات الهواتف الذكية، وأحياناً من سكان المنطقة. فهو يعرف الطرقات ويقيسها بالتعب. سبق أن أوقف شاحنته، وصافح سكاناً من هناك. وقد يكون اشترى اللوز والعرانيس، وفي هذا الموسم الحار سيشتري الصبار والتين في طريق العودة إلى البقاع. نتحدث عن العِرسالي الذي يعرف الجنوب، وتعرفه بيوته. الحِرفي الذي نُحِتت بيوت الجنوب بأحجاره. ليس عن رجل واحد، بل عن رجال كانوا يأتون من عرسال إلى الجنوب لينقلوا أحجارها إلى بنت جبيل ومحيطها. وما زالوا يأتون عمالاً وسائقين وحرفيين. يأتون لأن عملهم آدمي تماماً. وما زالت البيوت التي قصفتها إسرائيل ترتفع وتتّسع بالحجر العرسالي المفضّل للمعماري الجنوبي. يقولون في الجنوب عندما يريدون أن يمدحوا منزلاً إنه بُني بالحجر العرسالي.
هكذا يعرف الجنوبيون عرسال، مِن جبالها التي تنجب حجراً صلباً يقاوم الماء والرطوبة، ويستخدم للزينة لدفع الصخر على الابتسام. وأهل عرسال بالنسبة إلى اللبنانيين عموماً، وإلى الجنوبيين حيث تنشط حركة عمرانية، هم مصدر ومرجع في الأحجار وفي العمارة. وبأحجارهم ورحلاتهم ذهاباً وإياباً من عرسال إلى الجنوب وبالعكس، شيّدت بيوت جنوبية كثيرة. وهي بيوت خرج منها مقاتلون للدفاع عن جرد عرسال، كما لو أنهم هذه المرة يدافعون عن أنفسهم وعن منازلهم. هكذا يعرف الجنوبيون والعرساليون بعضهم بعضاً، بالأرض والصخر، حتى صار ينسحب عليهم ما يخلص إليه دانيل ليرنر، عن التحولات في أنساق قيم الثقافة الريفية بعد تعرضها للتحديث، وما ينتج ذلك من تعرف على المشاركة السياسية من الريفيين بسبب انتشار وسائل الاعلام. ولكن خلاصات ليرنر ليست قطعية أو نهائية، إذ إننا، وفي حالة الجنوب وعرسال، يمكننا أن نتحدث عن «كتلة تاريخية»، على طريقة غرامشي أيضاً، وعن بناء منهجي للطبقات الشعبية، ينتهي باتحادها انطلاقاً من تحت إلى فوق. إنها كتلة قابلة للبناء كما تبنى البيوت والأحجار، لكنها تقع في خانة الاقتصاد والمجتمع، وليست كتلة سياسية مؤقتة. في معرض تشريحه للكتلة التاريخية يرى غرامشي أن التحالف السياسي هو تحالف ظرفي يوجبه صراع ظرفي، على عكس التحالفات الأخرى التي تقوم على أساسٍ اقتصادي واجتماعي. لقد تحالف الجنوبيون والعرساليون لوقتٍ طويل. بنوا حلفاً قوياً وصلباً لا تهزّه الأحداث. بنوه بالأحجار القوية. لكن الحجر لا يستطيع أن يتحدث.