الرجل صاحب قبّعة القشّ. لابِس الألوان الفرِحَة. غزو الأبيض لأسوَد لحيته، المُهذّبة، يزيده ألقاً. اللبِق المرِح الوقور. المُتبسّم غالباً، في وجه الناس، وهكذا تكتمل اللوحة التي أرادها لنفسه.
ذاك أبو علاء الذي نراه، منذ بضع سنوات، عند «كورنيش» عين المريسة. هناك حيث يبيع الورد. ابن الخمسين إلا عام، الأب لستّة أبناء، الحلبي الذي خرج مِن بلاده قهراً، أصبح أخيراً أحد المعالم الزاهية في بيروت. لا يطرق شبّاك سيّارة، فمَن أراد أن يشتري فسيفعل مِن تلقاء نفسه، مكتفياً بعرض وروده. يجول في الشارع بين السيارات، عند الإشارة تحديداً، أمام المسجد المطلّ على البحر تماماً، برشاقة مَن يرفض أن تعجزه عقوده الخمسة. نجده هناك، يوميّاً، مِن العصر حتّى الثانية فجراً.
عندما يتعب يجلس أمام المقهى. أحياناً يأخذ غفوة على الكرسي، ثم عودة إلى العمل، وقوفاً ومشياً وتمايلاً. ذاك الشارع بمثابة ممرّ إلزامي لمواكب الأعراس في بيروت وضواحيها. ينثر مِن أوراق وروده فوق رؤوس العرسان، مبادرة مِنه، غير قاطع أنّه سيقبض ثمنها. الناس هناك، بمَن فيهم أصحاب المحال، يحبّونه. كأنّهم وجدوا فيه حاجة سياحيّة للمنطقة. إنّه مُبهِج. عرض عليه صاحب المقهى، ذات مرّة، أن يعمل لديه. رفض. لا يُريد أن يعمل عند أحد. في بيع الورد «أنا سيّد نفسي». كان سيّداً في بلاده، في حلب، في باب الهوا تحديداً، وأراد أن يظلّ كذلك. هو الآن كذلك. نجح في الأمر. تتورّم قدماه أحياناً، إنّما «لا بأس، المُهم أن أحصّل رزقة عائلتي، والحمد لله مستورة».
هو عبد السلام سليمان باشا، أو أبو علاء كما يَعرفه الناس، الذي جاء إلى لبنان قبل نحو ستّ سنوات، مع بداية الأزمة في سوريا، حيث تعطّلت تجارته. كان يعمل هناك، لحساب نفسه، في تصنيع وبيع مواد التنظيف. فجأة، عند الحديث عن حلب، يعتدل في جلسته، ثم تصبح ملامح وجهه أكثر جديّة. أكثر استعداداً للبوح الحميمي أيضاً. وينطلق: «سوريا! حلب! حلب كانت تضاهي أميركا، بل أفضل... بلدنا سياحيّة وصناعيّة وراحة نفسيّة. كل شيء جميل موجود في بلاد الشام. شايف حلب؟ إيه، أجمل مِن باريس». كالطيور تحنّ أبداً إلى أوطانها. حرقة تطرأ على نبرة صوته: «نحن، مِن حلب، قدرنا نوصّل ثياب داخليّة إلى الصين، الصين نفسها! كلّ شي كنّا نصنع بحلب. الغرب عم يكسر وكسر البنية التحتيّة في حلب». الغرب! أبو علاء ليس ساذجاً. إنّه يعرف سياسة الدول. هؤلاء، الذين لا يقيم لهم الكبار وزناً، هؤلاء الذين يأتون أحياناً على هيئة بائعي ورد، يحصل أن يكونوا أصدق حدساً مِن أعتى «محلل استراتيجي». الغرب، عند أبو علاء، هو «الذي أدخل داعش. هؤلاء المسلّحون الذين أدخلوهم علينا مِن تركيّا. أنا ابن تلك المناطق الحدوديّة وأعرف». يُناديه أحدهم، يعتذر مِن جليسه، فيحمل وروده ويقوم إلى المنادي. يقضي عمله ثمّ يعود. نسي عمّا كان يتحدّث. يتذكّر، ثم يُكمِل: « لمّا دخلوا داعش ما حدا قدر يواجههم مِن الناس لأن ما حدا معه سلاح. بلبنان الكلّ عنده سلاح، كلّ الناس، بسوريا كان هناك دولة قويّة وماسكة، كان في أمن وأمان، استغلوا بساطة الناس». هكذا يأخذك أبو علاء في الحديث إلى حيث لم تكن تتوقّع. نسي أمور وروده. كان يحتاج فرصة فقط ليتنفّس وجع بلاده.
عودة إلى الورود، التي فضّل أن يعمل بها لأنّها تذكّره ببلاده، بباب الهوا تحديداً، حيث تكثر هناك. أولاده الذين معه في لبنان، حالياً، يحرص أبو علاء على ألا يتركوا المدرسة، وقد نجح في ذلك... بفضل «عقود الغاردينيا». لولا الأولاد ما كان ليُرهق نفسه، لذلك «بدّك تتحمل المسؤوليّة، وإلا من جهتي يكفني سندويش في اليوم». كلّ هذا لا يقّدم شيئاً ولا يوخّر عند دوريّات «الاستقصاء». أخذوه قبل مدّة إلى المخفر وحرّروا محضر ضبط بحقّه. بيع الورد جريمة. لاحقاً تساهلوا معه بعدما ساعده أحدهم. سعر الورد ليس ثابتاً، فهو «مثل البورصة، يوم بيطلع ويوم بينزل. عموماً من جهتي بتعطيني حقّ الوردة ألف ليرة أو 10 آلاف، فاحترامك هو نفسه، وبسمتك رح تاخده منّي». سيعود ذات يوم إلى حلب، إن ثبت الأمن هناك، وهذا ما يُخطّط له. هذا الحلبي الطيّب الذي يوزّع الفرح. بهجة تمشي على قدمين. يُعطينا أثناء المغادرة وردة حمراء ويرفض، بإصرار، أن يأخذ ثمنها. روح حلب في بيروت، هناك عند «الكورنيش» البحري، كلّ ليلة، لمَن أراد أن يَشمّها.