علت أصوات في لبنان أخيراً حاسمة بإدانة ضباط وعناصر من الجيش اللبناني قبل ختم التحقيق في وفاة أربعة أشخاص كانوا قد احتُجزوا للتحقيق معهم في احتمال ضلوعهم في جرائم إرهابية. وفي المقابل، دافعت أصوات أخرى عن أداء الجيش حتى ولو تضمّن تعذيباً ومعاملة قاسية ومهينة وغير إنسانية بحق المشتبه فيهم. وفي الموقفين إساءة لمبادئ حقوق الإنسان.
لكن، قبل مناقشة هذا الاصطفاف الذي يضاعف خلافات اللبنانيين في ما بينهم، لا بد من الإشارة إلى أن حماية حقوق الإنسان والحفاظ على كرامات الناس تستدعي جهوداً مشتركة، يُفترض أن تبذلها المؤسسات الرسمية المدنية والعسكرية من جهة، والأشخاص المسؤولون عنها والعاملون فيها من جهة ثانية، والهيئات غير الحكومية من جهة ثالثة. ولا تقتصر الوسائل المخصصة لحماية الحقوق والحفاظ عليها على الآليات الدستورية والقانونية والتوجيهية، بل تشمل التوعية والإقناع وإحياء قيم اجتماعية ثابتة مبنية على رفض تجاوز كرامات البشر في كل الظروف، ولأي سبب كان.
أما محاسبة منتهكي حقوق الإنسان، فلا يمكن أن تكون كافية إذا اقتصرت على العقوبات القانونية، خصوصاً حيث لا دولة قانون ولا مسار تشريعي سليم. بل يجب أن تكون اجتماعية بحيث يعتبر انتهاك الحقوق أمراً شاذاً ومرفوضاً، ودليلاً على الحقد أو العقد النفسية التي تستدعي علاجاً سلوكياً.
إن قيام دولة القانون يستدعي مشاركة المواطنين في وضع القوانين، بما فيها قانون حقوق الإنسان والقوانين التي تجرّم التعذيب من خلال الانتخابات التشريعية. لكن هذا الأمر معطّل في لبنان منذ زمن. ويؤدي هذا العطل إلى اتساع الشرخ بين القوانين والأصول التي تحمي حقوق الناس وتحميهم والقيم الاجتماعية السائدة. فمثلاً، يتجاهل المجتمع اللبناني بمعظم أطيافه، على ما يبدو، معالجة موضوع التصرفات العنصرية بحق النازحين السوريين في لبنان بسبب تقديمه الاعتبارات الاقتصادية والأمنية على القيم الأخلاقية والحقوقية. كما يتجاهل بعض مناصري حقوق الإنسان مبدأ قرينة البراءة من خلال إطلاقهم تصريحات علنية تدين الجيش قبل انتظار صدور نتائج التحقيق في وفاة أشخاص أوقفوا للاشتباه بضلوعهم في الإرهاب.
ومعلوم أن احترام قرينة البراءة هو من بين ركائز المحاكمة العادلة، وكل شخص ــــ سواء المحقِّق أو المحقَّق معه ــــ بريء حتى تثبت إدانته أمام محكمة عادلة، لا أمام وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي. وفيما يمكن أن تزيد الشبهة بسبب بعض الممارسات، إلا أنه لا ينبغي أن تتحوّل الشبهة إلى هجوم مركّز على الجيش يمكن أن يستخدمه البعض في حرب نفسية تستهدف المؤسسة العسكرية. وفي موازاة ذلك، فإن ممارسات وتحركات واتصالات بعض المشتبه فيهم من بين النازحين السوريين في لبنان المشتبه فيهم بالضلوع في الإرهاب يمكن أن تزيد الشبهة وتبررها، لكن لا يجوز أن تتحول إلى إدانة قبل المحاكمة، ولا ينبغي أن تُستخدم، حتى بعد صدور أحكام بالإدانة، للتعميم بشأن النازحين السوريين.
لنتعمق في النقاش، ولنحسب أن القضاء أدان عسكريين بعد ثبوت ضلوعهم في تعذيب معتقلين لديه، فهل سيوقف ذلك ممارسات التعذيب؟ وهل سيرتدع العسكريون الآخرون؟ وهل يمكن أن يساهم ذلك وحده في حلّ المشكلة؟
المساءلة والمحاسبة القانونية واجب لا يُفترض إغفاله أبداً، لكن المطالبة بهما ينبغي أن تقترن ببرنامج متكامل لتوعية الناس بشأن الحقوق، وإقناعهم بأهمية الحفاظ عليها وحمايتها. أما التركيز على الملاحقات القانونية من دون وجود قناعة راسخة وسائدة في المجتمع، فقد تحدث أضراراً جسيمة بمساعي التثقيف على حقوق الإنسان. فماذا، مثلاً، لو أُجري استفتاء يدعو اللبنانيين إلى الاختيار بين الإجراءات الأمنية والعسكرية الصارمة وبين الحفاظ على حقوق النازحين السوريين؟ ألن تؤدي النتيجة إلى مزيد من تراجع في حقوق الإنسان؟
للنقاش صلة، لكن قبل ختم هذا المقال، وبسبب الانقسام الحاد بين بعض اللبنانيين حول هذا الموضوع، نذكر بالمبدأ القانوني القائل إن الاتفاق هو الذي يصنع القانون ويجعله قابلاً للتطبيق... Consensus Facit Legem.