لم يكتف تجار الخضر بالجملة بمركز عمل مجاني في سوق الحسبة، بل خلقوا على هامشه مضاربات عقارية. «المحميّة» التي «أهدتهم» إياها بلدية بيروت قبل أكثر من ثلاثة عقود، صارت مرتعاً لتجارة تحقّق الربح الوفير والسهل والسريع.
«خلو الرجل» هو محور هذا الهامش. قبل أشهر، باع رئيس نقابة تجار الخضر بالجملة محمد القيسي «خلو رجل» لتاجر خضر آخر بقيمة مليون دولار. سبقه في ذلك بيوعات وصلت قيمة كلّ منها إلى 400 ألف دولار. وفق هذه المعطيات المستقاة من بلدية بيروت، فإن القيسي حطّم الرقم القياسي. ليست هذه المضاربات في سوق الحسبة وليدة اللحظة، بل هي صناعة البيئة السياسية والاقتصادية منذ ما قبل الحرب الأهلية، وما بعدها. سوق الحسبة تأسّس في وسط بيروت في عام 1948، لكن الحرب في منطقة الأسواق التجارية فرضت عليها الانتقال إلى برج أبي حيدر. الظروف غير المناسبة بالقرب من نفق برج أبي حيدر فرضت الانتقال مرّة جديدة. في مطلع الثمانينيات، استأجرت بلدية بيروت العقار 3016 في منطقة الشياح العقارية لاستعمالها بديلاً موقتاً لسوق الحسبة.

تدفع بلدية الغبيري
مليون دولار كلفة رفع النفايات من سوق الحسبة

العقار هو ملك الدولة اللبنانية وإيجاره بخس جداً. بلدية بيروت أنشأت هنغارات على قسم من العقار المذكور يتضمن سلسلة محال تجارية. سُلّمت المحال إلى نقابة معلمي وتجار الخضر والفاكهة بالجملة . لم يكن هناك أي إطار مؤسساتي أو رسمي يرعى توزيع المساحات على التجار، إذ كانت النقابة هي المشرفة برعاية البلدية. شراكة غير رسمية بلا مسوّغ قانوني.
مع الوقت، تحوّل السوق إلى أمر واقع. البديل أصبح دائماً بعد 35 عاماً. النقابة بدأت تدير المساحات وتفرض شروطها. المذهبية المناطقية فعلت فعلها أيضاً. النقابة صارت محسوبة على تيار المستقبل. كيف لا تحسب عليهم وهم «سُنّة بيروت» الذين هُجّروا من وسط بيروت. العودة إلى وسط بيروت أمر منسيّ. عقارات الوسط لم تعد ملك «أهل بيروت» بل باتت ملكاً وإدارة لشركة «سوليدير». الوحش العقاري لم يأخذ محلّ تجار الخضر فقط، بل ابتلع كل شيء حتى الثقافة التجارية. رغبة التجّار لم تعد مقتصرة على شراء كمية من الخضر والفاكهة من المزارع أو من حلقات وسيطة معه، بل توسّعت إلى حدّ التماثل بـ«سوليدير». فجأة، صار تجار الخضر والفاكهة يتخلّون عن المساحات الممنوحة لهم من بلدية بيروت مجاناً، مقابل مبالغ مالية كبيرة يدفعها غيرهم من التجار. بعض الصفقات تمت مع غير اللبنانيين. المعايير المتبعة هي معايير السوق والمضاربات والسياسة. المبلغ المعروض والهوية هما «الثمن».
بعد فترة، لم تعد المساحات كافية. عدد التجار ازداد. توسّع السوق نحو عقار تملكه بلدية الغبيري. التعدّي لم يشكّل مشكلة بالنسبة للتجار. 20% من سوق الحسبة بمساحته الحالية تقع ضمن أملاك بلدية الغبيري. بلدية بيروت لم تحرّك ساكناً، رغم أن لها مصلحة في تنظيم السوق واستيفاء إيجارات من الشاغلين ووضع معايير لتوزيع المساحات على التجار. ذهبت بلدية بيروت نحو حلّ آخر ذي وجه عقاري أيضاً. اشترت عقاراً ملاصقاً بسعر 3000 دولار للمتر المربع الواحد فيه. السعر الإجمالي لهذا العقار بلغ 40 مليون دولار. هدف البلدية توسيع السوق من دون أي خطّة واضحة لعملية تنظيمه.
الفوضى في هذه السوق مماثلة للفوضى خارجه، حيث المضاربات العقارية لم تتوقف طوال العقود الثلاثة الأخيرة. تجار الخضر لديهم أعين وحيّز من الجشع أيضاً. هم لا يريدون أي تنظيم للسوق يكبح جماحهم. رفضوا كل الطروحات لتنظيم السوق وآليات عمله التي قدّمها الوزير حسين الحاج حسن يوم كان وزيراً للزراعة. تقييد النقابة بمعايير وأنظمة مؤسساتية يلغي كل البنيان السابق. يلغي كل الأرباح المتاحة. بلدية الغبيري أيضاً حاولت. كانوا يرفضون تسديد الرسوم البلدية مقابل أعمال التنظيف. في النهاية، فرضوا على البلدية مبلغاً زهيداً قيمته 60 مليون ليرة سنوياً. يتوزّع هذا الرقم على أكثر من 170 تاجراً، أي بمعدل 350 ألف ليرة على الواحد سنوياً، و940 ليرة يومياً. في المقابل، تدفع بلدية الغبيري يومياً أكثر من 4530 دولاراً لسوكلين لتنظيف البقايا والأوساخ التي يتركها التجار. حجم النفايات اليومية الناتجة من السوق تراوح بين 30 طناً و40 طناً. رغم ذلك، رفضت النقابة التجاوب مع طلب البلدية رفع قيمة الرسم البلدي. المفاجئ في ذرائع النقابة للامتناع عن التجاوب مع بلدية الغبيري، هي ذرائع مرتبطة بكون التجار هم «أهل بيروت» (سُنّة بيروت ضمناً) الذين يشكّل وجودهم «منفعة» عامة لكل المقيمين في المدينة وضواحيها. لا يمكن طرد أهل بيروت من السوق. هل طردهم من وسط بيروت مقبول؟ النقابة قرّرت أيضاً أن تطلب من بلدية بيروت تخصيصها بحراسة أمنية! المحافظ زياد شبيب لم يقدّم جواباً بعد بسبب إشكاليتين؛ الأولى أن النقابة مقيمة في السوق بشكل مجاني، والثانية أن الأرض تقع ضمن نطاق بلدية الغبيري، أي أن عليه أن يطلب من بلدية الغبيري تقديم الحراسة.
عند هذا الحدّ، قرّرت بلدية الغبيري أن «تضرب». هذه هي الخطوة الثانية في اتجاه فرض سيطرتها على حدودها الغربية. الخطوة الأولى كانت مع نادي الغولف الذي كان يرفض الاعتراف بكونه مؤسسة تجارية خاضعة للضريبة. أصرّ النادي على أنه مؤسسة ذات منفعة عامة، إلى أن قرّرت البلدية تنفيذ حجز قضائي على أملاكه. عندها فقط تجاوب. نقابة تجار الخضر أيضاً سلكت المسار نفسه. البلدية عمدت أمس الى مداهمة بعض المحالّ في سوق الحسبة التي تخلّى عنها مالكوها لحساب تجار خضر آخرين. تبيّن للبلدية أن سوق الحسبة فيه لحّامون، وفيه مقاهٍ تقدّم النرجيلة. المالكون الجدد (الذين اشتروا خلو الرجل) للمحال، أذعنوا فوراً ووقّعوا تعهدات بتسوية أوضاعهم لدى بلدية الغبيري. رغم ذلك، لم تذعن نقابة التجار. تريد أن يبقى السوق مرتعاً لمضاربات «خلو الرجل»، الربح السهل والوفير والسريع.