تسود العالم أيديولوجيا ترمي على عاتق الفرد مسؤولية كل شيء، ومن هذا المنطلق، عندما تطرح مسألة التغيّر المناخي، تحذِّر المنظمات المعنية والحكومات، الناس من استخدام بعض المنتجات لأنها تضر شبكة الأوزون، وتحثّهم على الالتزام بإعادة التدوير، وعدم استخدام الطاقة والسيارات على نحو "مفرط"، إلخ.
وتستغل طبعاً، الشركات هذه الثقافة لتسويق منتجاتها "الصديقة للبيئة" ليشعر الشخص بأنه يساهم في إنقاذ البيئة عبر اختياره هذا المنتج بالذات حتى وإن كان أكثر غلاءً. في المقابل، على مستوى الدول، يسوّق توصل الولايات المتحدة وغيرها من دول ذات أعلى نسبة انبعاثات ثاني أكسيد الكربون إلى اتفاق متواضع (غير ملزم) لحد الانبعاثات عن 2% على أنه إنجاز عظيم وخطوة كبيرة نحو إنقاذ البشرية. الواقع هو أن هذا "الخطر الوجودي" أصاب مئات الملايين من البشر، وبالأخص الفقراء الذين يعيشون من الزراعة، وأن ما تروّجه هذه الثقافة الفردانية في دفع الناس العاديين ليصبحوا "أصدقاء للبيئة" تخفي وراءها مشكلة بنيوية، هي مشكلة المراكمة المستمرة لرأس المال.
بين الجفاف، والفيضانات، والأعاصير، إضافةً إلى تحمّض المحيطات، وارتفاع منسوب مياه البحر، تشكّل التغيرات المناخية المتفاقمة، ضغطاً على الأنظمة الغذائية والعوامل المعيشية في العالم ككل، ولكن، لا يمكن تجاهل المنحى الطبقي للمسألة، إذ ان الأكثر تضرراً هم في الواقع، الفقراء، في المناطق الريفية، في دول فقيرة، يعتمد فقراؤها بشكل أساسي على الزراعة لتأمين المعيشة، ويتعرضون لارتفاع شديد في درجات الحراراة. وفي المقابل، الاقل تضرراً هم الأكثر ضرراً، أي الأثرياء، أصحاب المصانع، والشركات في الدول الصناعية.

800 مليون جائع

أشار تقرير جديد صادر عن منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (فاو) إلى أن حوالى 800 مليون شخص في العالم يعانون الجوع الدائم، كما توقع التقرير أن النمو السكاني والتغيّرات في الأنظمة الغذائية، سيدفعان بالحاجات الغذائية إلى الارتفاع بنسبة 60% مع حلول عام 2050.
يذكر تقرير "فاو"، أن 70% من فقراء العالم، الذين يعانون انعدام الأمن الغذائي، يعتمدون على الزراعة والموارد الطبيعية لتأمين معيشتهم. علماً أن الانتاجية الزراعة لا بد أن ترتفع بنسبة 60%، بأقل تقدير، مع حلول عام 2050، لتغطي الحاجات الغذائية المتزايدة، يحذّر التقرير من أن الانتاجية تتعرض للخطر المتزايد مع تفاقم الأزمات الطبيعية (في الغالب نتيجة التغيّر المناخي) التي تهدد المحاصيل والمواشي والثروة السمكية. كما يشير التقرير إلى أن الكوارث الطبيعية المتأثرة بشكل كبير بالتغيّر المناخي، قد أحدثت منذ عام 2003 إلى 2013، ما يوازي حوالى 500 مليون دولار أضراراً في الدول النامية، وأثّرت على حياة نحو ملياري شخص، أغلبهم من الفقراء. في المقابل، اشار التقرير الى أن ثلث المواد الغذائية المنتجة اليوم إما تفقد أو تهدر. ويكلّف هدر الغذاء، على مستوى عالمي، حوالى 2.6 تريليون دولار سنوياً، أي حوالى 8.6% من المبلغ المطلوب سنوياً لإنهاء الجوع في العالم (30 مليار دولار، أي 4% من ميزانية الدفاع الأميركية). ذلك إضافةً إلى حوالى 700 مليار دولار خسارة من حيث التكلفة البيئية، و900 مليار دولار، تكاليف اجتماعية. كما أنها مسؤولة عن 8% من انبعاثات الغازات الدفيئة سنوياً.

عدم الصلاحية للعيش

الرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترامب، كان يصدح، خلال حملته الانتخابية منذ أشهر، بأن التغيّر المناخي ليس إلّا "مؤامرة صينية لضرب مصانعنا"، وجدت دراسة صادرة عن مركز "ماكس بلانك للكيمياء" الألماني، ومركز "نيكوزيا" القبرصي، أنه لو تم الالتزام بوضع حد للاحتباس الحراري عند مستوى درجتين مئويتين، كما تم الاتفاق خلال قمّة التغيّر المناخي في باريس في العام الماضي، فإن ذلك لن يؤثر كثيراً على ارتفاع درجات الحرارة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (علماً أن ذلك الاتفاق لا يفرض على أي من المتفقين تنفيذه).
70% من فقراء العالم يعتمدون على الزراعة لتأمين معيشتهم

وحذّرت الدراسة من أنه مع نهاية القرن الحالي، ستكون مناطق عدة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ليس فقط غير صالحة للزراعة، بل غير صالحة للحياة البشرية أصلاً، إذ قد تصل درجة الحرارة خلال منتصف النهار في "الأيام الدافئة" إلى 50 درجة مئوية. كما أشار "مركز رصد النزوح الداخلي"، الأسبوع الماضي، إلى أنه ترتفع نسبة المساحة غير الصالحة للزراعة في السودان، وأنه سترتفع درجات الحرارة حوالى ثلاث درجات مئوية مع حلول عام 2060، في بلد أصبحت مناطق عدة فيه تعد في طريقها إلى عدم الصلاحية للعيش. وهذا الكلام ينطبق أيضاً على معظم دول أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.
قيمة خطاب ترامب، في غالب الأحيان، تكمن في إظهاره الحقائق التي يحاول إخفاءها أو قلبها في مضمون كلامه، ففي محاولته إحالة التغيّر المناخي مؤامرة، يشير إلى المسؤول الأول عنه، والمتضرر الأول من اتخاذ إجراءات حقيقية للحد من آثاره: الشركات، ولا سيما الأميركية والصينية منها.

نقل الازمة جغرافيا

يقول السوسيولوجي الأميركي، جون بيلامي فوستر، انه بحكم "اندفاعها نحو المراكمة المستمرة، الرأسمالية هي المحرّك الأساسي وراء التغيّر المناخي الكارثي". هذه المقولة مبنية على التناقض الجوهري في الرأسمالية الذي كشفه ماركس، أي التجاذب الدائم بين رغبة الرأسماليين لاستخراج أقصى قدر من الربحية من نظام ما، وضرورة أن يبقى للعمّال دخل كاف لامتصاص السلع المنتجة كي تتحقق الأرباح. هذا التناقض يؤدي إلى أزمات تتخلل فائضاً من الانتاج والمراكمة، حيث يتراجع الاستهلاك وينكمش الاقتصاد وترتفع البطالة. ولحل هذه الأزمة، يجبر الرأسمالي على استثمار رأسماله المراكم في مجالات انتاجية من جديد، في ما يسميه بلير ساندلر دافع "النمو أو الموت". ويتم ذلك عبر ما يصفه دايفيد هارفي بالـ"إصلاحات المساحية"، حيث يقول هارفي إنه عندما تقع الرأسمالية في أزمة فائض تراكم، يمكنها أن تؤجل، أو تتجنب، المخاطر التي تواجهها عبر نقل الأزمة (وبالتالي تحويلها) جغرافياً، فإذا وقعت أزمة فائض مراكمة في منطقة معيّنة من العالم، يصبح من المنطقي نقل فائض العمّال و/أو رأس المال إلى منطقة أخرى للانخراط في مشاريع انتاجية هناك. أما إذا كانت المسألة تراجع في الاستهلاك، فيمكن فتح أسواق جديدة في مناطق غير رأسمالية. وفي حال كانت المسألة تتعلّق بضآلة الموارد الطبيعية، فإن بامكان الشركات البحث عن مناطق أغنى بالموارد لجلب ما تحتاجه منها. الهدف هنا، أن تستمر الرأسمالية بمراكمة الأرباح بشكل مستمر عبر تعديل وإعادة ترتيب المجال الجغرافي بأشكال قد تكون مدمّرة اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً وبيئياً. وتستشهد الباحثة نايومي كلاين، في السياق نفسه، بالحروب الأميركية في العراق ودول أفريقية عدة وغيرها من أجل السيطرة على الموارد والاسواق، وكذلك تستشهد بالانقلابات التي نظّمتها في دول كتشيلي واندونيسيا، إضافةً إلى تاريخ الاستعمار في ما يسمّى "العالم الثالث"، والنهب الأوروبي، الأميركي، والصيني، المستمر لموارد القارّة الأفريقية.




ثورة إيكولوجية

يعتبر بيلامي وغيره من الباحثين في مجال البيئة، أنه لا يمكن تجنّب الكوارث البيئية التي تنتجها الرأسمالية "بأقل من ثورة إيكولوجية"، أي عملية إعادة ترتيب جذرية لعلاقات الانتاج وإعادة الانتاج، بسبيل بناء نظام ومجتمع أكثر استدامةً، لا يعتمد على التدمير البيئي ليستمر. بينما تعتمد أغلبية الحلول المطروحة من قبل المنظمات الدولية المعنية على حسن نية الشركات والدول (التي أوصلتنا بالأساس إلى هنا) واندفاعهم الذاتي نحو تفضيل الاستدامة وانقاذ البشرية على تحقيق الأرباح.