لم يكن تباكي الرئيس سعد الحريري بعد إعلان مراسيم تشكيل الحكومة أمس، على مدينة حلب، سوى الوجه الآخر للخسارة المدويّة التي مني بها وفريق 14 آذار، بعد تشكيل الحكومة الأولى في عهد الرئيس ميشال عون.
هي سخرية القدر، أو سخرية الأخطاء المستمرّة في الحسابات والرهانات على تحوّلات الإقليم والارتهان للخارج منذ شباط 2005، ما أوصل الحريري إلى هذه النهاية: حكومة يرأسها الحريري صاحب أكبر كتلة نيابية في البرلمان اللبناني، ولا يملك فيها ثلثاً ضامناً من دون اضطراره إلى مراضاة حزب القوات اللبنانية المتحالف مع رئيس الجمهورية. ويكاد يكون فيها كتلة للرئيس السابق إميل لحّود (الوزير سليم جريصاتي كان مستشاراً له، والوزير يعقوب الصراف كان «مُحافظه» في بيروت ثم وزيراً من حصته في حكومة الرئيس فؤاد السنيورة الاولى).
بعد حوالى شهر ونصف على تكليف الحريري، خرجت الحكومة الأولى في عهد عون، ونال فيها حزب الله وحلفاؤه، ومن ضمنهم التيار الوطني الحر، بدل الثلث الضامن 17 وزيراً، الى وزيرين للقاء الديموقراطي وسطيّين «إلى حين»، كما كان النائب وليد جنبلاط «وسطياً» قُبيل تشكيل حكومة الرئيس نجيب ميقاتي.
بدا الحريري في الأسابيع الماضية مسلوب الإرادة ومشتاقاً للعودة إلى السلطة بأي ثمن. تلك السلطة/الرئاسة التي عسى أن تحميه وتحافظ على الزعامة التي ورثها بفعل الدم وبناها بالتحريض المذهبي، وعسى أن تحميه في الأيام الحاضرة التي ترفع السعودية فيها سلطة قضائها بوجهه، بعدما تركته ليواجه قدره من دون صنبور المال الذي انهمر في جيبه.

لحزب الله وحلفائه 17 وزيراً،
فيما الحريري سيكون مضطراً
إلى مراضاة جعجع للحصول
على الثلث الضامن



اعتاد الحريري في السنوات الماضية الانهزام. بعد سنوات من اتهام سوريا باغتيال الحريري، لم تسعفه قدماه للجري إلى جانب الرئيس السوري بشّار الأسد في دمشق ما إن لاحت شمس السين ــ السين وقتها. سقط اتهام دمشق وتحوّل الاتهام إلى حزب الله، لكنّ الحريري الذي استمدّ شرعيّته لسنوات من التحريض السنّي ــ الشيعي لم يجد غير الحوار والمشاركة مع حزب الله، قاتل والده حسب ادّعائه وادّعاء داعميه في الخارج. ومن ترشيح رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع إلى رئاسة الحكومة، تنازل الحريري إلى ترشيح الوزير سليمان فرنجية قبل عام دفعةً واحدة، مع ما يعنيه فرنجية من قربٍ لسوريا وحزب الله. ومن يرشّح فرنجية، لن يجد مشكلة تحول دون ترشيحه عون، الذي عطّل حزب الله الانتخابات الرئاسية لأجله لعامين ونصف عام. باع الحريري وهماً للسعوديين بأن ترشيحه لعون سيبعد رئيس الجمهورية عن حزب الله، ويجعله أقرب لبلاد «طال عمرك». بعد هذه الحكومة، ولا بدّ أن من صدّق الحريري من السعوديين، سيكتشف أن هذا الحلم وهم بوهم.
وفي ما بعد رئاسة عون، تدحرج الحريري من الإصرار على حكومة الـ24 وزيراً والفيتوات على الأسماء والمناصب والحصص، إلى القبول بالوزيرين يعقوب الصراف وسليم جريصاتي شريكين في قرار الحكومة، والقبول بغالبية أطياف فريق 8 آذار، من الحزب السوري القومي الاجتماعي إلى النائب طلال أرسلان.
وليست القوات اللبنانية بأفضل حالاً، مع أنها حازت حصة تفوق حجمها، لكنّ مسار التنازلات القواتية لا يقلّ «انهزاماً» عن مسار الحريري. في البدء، كانت كلمة القوّات، بناءً على اتفاقها مع التيار الوطني الحرّ، أن تنال بالتساوي ما يناله التيار، ومن ضمنه طبعاً حقيبة سيادية من الحقائب الأربع. فشلت في انتزاع الحقيبة السيادية، وتنازلت عنها لمصلحة وعدٍ آخر من الحريري بالحصول على حقيبة الأشغال. ومن قال إن الرئيس نبيه برّي في وارد التنازل عن هذه الحقيبة؟ ولمصلحة القوات؟ على عكس الحريري، ترجم برّي وحزب الله التزامهما الصادق مع حليفهما فرنجية بتمثيله بحقيبة ترضيه. تنازل برّي من حصّته عن الأشغال لفرنجية، خصم القوّات اللدود، والذي من أجله ولقطع الطريق عليه، اضطر جعجع إلى ترشيح عون إلى الرئاسة. كذلك فإن برّي حصّل مكاسب بالجملة: فرض نفسه شريكاً في تأليف الحكومة، مفاوضاً باسم طيف واسع من حلفائه. حتى الحقيبة الشيعية الخامسة التي أراد الحريري حرمانه منها، عاد ونالها (حقيبة الدولة لشؤون التنمية الإدارية).
لماذا تنازل الحريري؟ ببساطة، ثمة ثلاثة عوامل: الاول، الوضع الإقليمي الذي لا يسير لمصلحته، والثاني، وضعه المالي الذي يزداد سوءاً بعدما صدر أمر تنفيذي عن محكمة في الرياض، قد يمكّن رافع الدعوى عليه من الحجز على طائرته الخاصة إذا حطّت في أحد مطارات السعودية. أما الثالث، فهو تصلّب الرئيس ميشال عون الذي أوصل إلى الجميع رسالة مفادها أنه لن يمانع أن تُشرف حكومة تصريف الاعمال على الانتخابات النيابية المقبلة، إذا فكّر أحد في فرض شروط عليه.
الساعات الأخيرة قبل الاعلان المفاجئ شهدت لقاءً استمر ساعات بين الحريري ووزير الخارجية جبران باسيل، في منزل الأول، لوضع اللمسات الأخيرة على التشكيلة، وجرى خلاله حديث في ضرورة البحث في قانون جديد للانتخابات، وهو ما أشار اليه الحريري في كلمته عقب إعلان التشكيلة. وقالت مصادر لـ»الأخبار» إنه تم الاتفاق بين الرؤساء الثلاثة على أن لا يستغرق إعداد البيان الوزاري وقتاً طويلاً، بعد الاتفاق على اعتماد خطاب القسم أساساً له. وأكدت أن الأجواء في بعبدا كانت «إيجابية جداً»، خصوصاً بين بري وباسيل، وتخللته «قفشات» لرئيس المجلس. وعلمت «الأخبار» أن باسيل أكد للحريري أن التيار «معني بأن يكون رئيس الحكومة مرتاحاً، وأنه حريص على إنجاح مهمته. لكنه شدد على أن رفع الحكومة الى 30 يستدعي بالضرورة رفع حصة رئيس الجمهورية الى خمسة وزراء».

حصّل بري مكاسب
بالجملة: من فرْضِ نفسه
شريكاً في تأليف الحكومة إلى الحقيبة الشيعية الخامسة


عونياً، بدا أن الحكومة «طُرّزت» بتأنّ ووفق حسابات مدروسة، مناطقياً وانتخابياً، وحملت رسائل في اتجاهات متعددة. فقد راعى فريق الرئيس ــــ التيار الوطني الحر في اختياره وزراءه توزيعاً مناطقياً واسعاً (بيروت وزحلة وزغرتا والبترون وعكار والشوف) سيكون له تأثيره على الانتخابات النيابية المقبلة. فاختيار وزير بيروتي أرثوذكسي من الأشرفية (نقولا التويني) رسالة انتخابية الى القوات اللبنانية، واختيار وزير من إقليم الخروب (طارق الخطيب) رسالة الى تيار المستقبل والنائب وليد جنبلاط، كما أن اختيار وزير من زغرتا (بيار رفول) رسالة الى النائب سليمان فرنجية. أضف الى ذلك اختيار وزير من عكار للدفاع (يعقوب الصراف) بما تعنيه عكار انتخابياً للتيار، وبما تعنيه أيضاً للمؤسسة العسكرية التي تنازعت الطموحات الرئاسية المشرفين عليها في السنوات الماضية. وإلى الخارجية والدفاع السياديتين، حاز هذا الفريق حقائب أساسية مثل العدل والطاقة والاقتصاد، كما أنه تصدى لوزارة البيئة بما تتضمن من ملفات عالقة، ما يؤشر الى نيته العمل على وضع حلول للمشاكل المستعصية في هذه الوزارة.
الحكومة التي أعلنت أمس كانت لتبصر النور قبل أسبوع، فيما لو نجحت مساعي النائب وليد جنبلاط، ودعوة الرئيس بري الرامية إلى إدخال حزب الكتائب فيها. فرئيس الجمهورية أخّر الحكومة في الأيام القليلة الماضية حرصاً على التمثيل الكتائبي، رغم معارضة القوات اللبنانية، لكن رفض الكتائب وزارة الدولة أدى الى ذهاب حصتها الى الحريري (جان أوغاسبيان). جنبلاط كان قد رتّب لقاءً بين النائب سامي الجميّل والحريري، لكن يبدو أن الأخير لم يأخذ بنصيحته حين قال له: «لا تحصر التمثيل المسيحي بالقوات اللبنانية والتيار الوطني الحر، فبالنتيجة هذا ابن الجميّل الذي لديه تمثيله». وفيما قيل إن جنبلاط كان يرفض التنازل عن حقيبة العدل، أكدت مصادره أن رئيس اللقاء الديمقراطي هو الذي طالب بالحصول على وزارة التربية بعدما «درسنا الموضوع ورأينا أن العدل لا تفيدنا في هذا الظرف». وتوضح المصادر أنه قبل بهذه الحقيبة في البداية «لاعتقادنا أننا نحل اشكالاً بقبولنا بها، بعدما سحبت منا وزارة الشؤون الاجتماعية». وبررت خيار حقيبة التربية بأنها «بصراحة خدماتية وتعني لنا، كونها تضم قضايا عدة، كقضية التعليم العالي والجامعة الوطنية».
أما مصادر حزب الكتائب، فرأت أن ما حصل هو «ترجمة لحديث رئيس الحزب يوم الجمعة الماضي، لجهة المطالبة باعتماد معايير موحدة في تأليف الحكومة، فلا يجوز أن يحصل سليمان فرنجية على الحقيبة التي يريد ونائب وحيد كطلال أرسلان على حقيبة والحزب السوري القومي الاجتماعي على حقيبة والقوات على ٤ حقائب، لسبب وحيد، وهو أن لكل منهم حليفاً قوياً يفاوض باسمه، في حين أن الكتائب التي تضم كتلتها ٥ نواب تتمثل بوزارة من دون حقيبة». وقالت المصادر: «كان واضحاً أنهم لا يريدوننا في الحكومة، ولذلك عرضوا علينا ما نرفضه». وفي المرحلة المقبلة، «ستمارس الكتائب دورها كفريق معارض لهذه الحكومة التي لا يبدو أنها ستتمكن من إقرار الموازنة أو قانون جديد للانتخابات. ولن نكون محرجين من فتح ملف أحد»، تعد مصادر الحزب التي ترى أن «الحكومة ليست حكومة وحدة وطنية، ما دمنا لسنا جزءاً منها». وعلمت «الأخبار» أن الحريري حاول إقناع الجميّل بوزارة الدولة قبل صعوده الى قصر بعبدا، ولكن الأخير رفض.
يُذكر أنه تم الاتفاق على إرجاء أخذ الصورة التذكارية وعقد أول اجتماع لمجلس الوزراء إلى ما بعد عودة باسيل من مصر التي يتوجه اليها اليوم لتقديم التعزية بشهداء تفجير الكنيسة البطرسية، على أن يلتقي الرئيس عبد الفتاح السيسي والجالية اللبنانية في الإسكندرية، ويشارك في اجتماع وزراء الخارجية العرب والأوروبيين في القاهرة، قبل أن يعود مساء الثلاثاء إلى بيروت.