لم يرسم مصرف لبنان أي حدود معلنة للعمليات التي سمّاها «هندسات مالية». بقيت الآلية والأهداف شبه سريّة. أما النتائج، فكان حاكم مصرف لبنان رياض سلامة يطلع المجلس المركزي ولجنة الرقابة على المصارف عليها «بالتقسيط».
لم تناقش الهيئتان أي مقترح أو فكرة أو هدف، بل كانتا متلقّيتين لما يقوم به سلامة وفريق عمله.

حصيلة خارج النقاش

على مدى أربعة أشهر، نفّذ مصرف لبنان عمليات مالية مع المصارف تنطوي على آلية معقّدة بدأت تظهر تدريجاً إلى أن اتضحت على النحو الآتي:
ــ اشترى مصرف لبنان سندات يوروبوندز من وزارة المال بقيمة ملياري دولار وسدّد ثمنها بسندات بالليرة اللبنانية يحملها في محفظته.
ــ اشترى مصرف لبنان من المصارف، سندات خزينة مقوّمة بالليرة اللبنانية، بسعر إصدارها، واشترط عليها أن تشتري منها سندات يوروبوندز وشهادات إيداع بالدولار، على أن تسدّد ثمن هذه السندات والشهادات بدولارات طازجة تستقطبها من الخارج.
ــ كان مصرف لبنان يدفع للمصارف، فوراً، الأرباح المرتقبة من سندات الخزينة ويحتفظ لنفسه بنصف الأرباح.
حصيلة هذه العمليات لم تكشف مباشرة، بل كانت تظهر تباعاً أيضاً، إلى أن أقفلت العمليات قبل أسابيع. يقول سلامة في مقابلة مع «لوريون لو جور» إن هذه الهندسة بدأت في أيار وانتهت في آب (علماً أن هناك أدلة كثيرة على أنها استمرت حتى نهاية تشرين الثاني)، وأشار سلامة إلى أن حصيلة العمليات جاءت على النحو الآتي: جمع مصرف لبنان 12 مليار دولار فيما حقّقت المصارف إيرادات بقيمة 5 مليارات دولار ومثلها لمصرف لبنان. وأضاف أن المصارف تمكنت من مراكمة 2.4 مليار دولار لتلبية متطلبات المعيار الدولي IFRS9، فيما قامت بعض المصارف بمنح زبائنها حصّة من هذه الإيرادات.
هكذا إذاً، صارت بعض الوقائع خارج أي تشكيك: المصارف وكبار الزبائن حصلوا على إيرادات فورية بقيمة 5 مليارات دولار. أما أرباح مصرف لبنان التي يتحدّث عنها سلامة، فهي إيرادات غير محققة لا يمكن تضمينها في ميزانية مصرف لبنان إلا بقدر ما يتحقق منها سنوياً، وقد تمتدّ فترة تحصيلها كلّها إلى أكثر من 15 سنة، لأن الأمر مرتبط بأجل السندات التي اشتراها مصرف لبنان من المصارف.
هذا ما قام به سلامة خلال الأشهر الماضية. وقد جرى التمهيد له عبر التركيز على العجز المتواصل لميزان المدفوعات؛ بين عام 2011 وأيار 2016 كان العجز المتراكم قد بلغ 11.1 مليار دولار، وهو ناجم عن ضعف التدفقات الرأسمالية التي تأتي إلى لبنان عن طريق تحويلات العاملين المغتربين المرتبطة جذرياً بأسعار النفط، أو تلك المسماة استثمارات أجنبية مباشرة. تأتي هذه التدفقات بالعملة الأجنبية، الدولار تحديداً، وتدخل إلى لبنان من خلال قناة أساسية هي المصارف، ثم يعمل مصرف لبنان على امتصاصها لتعزيز احتياطاته بالعملات الأجنبية. كذلك كان الحديث المتزايد عن ضرورة الوقاية من استمرار تدهور الأزمة السياسية المحلية وتدهور الاقتصاد العالمي. يومها لم يكن واضحاً مصير انتخاب رئيس للجمهورية، فيما الأزمات الأمنية والعسكرية تعصف بدول المنطقة على وقع تباطؤ نمو الاقتصاد العالمي.

حقّقت المصارف إيرادات
بقيمة 5 مليارات دولار


في ظل هذا الضخّ، انطلقت التحليلات عن حاجة مصرف لبنان إلى الاحتياطات بالعملة الأجنبية، إذ أن مستوياتها كانت خلال السنوات الماضية تفوق 31 مليار دولار، ولكنها انخفضت في كانون الأول 2015 إلى 30 ملياراً. أما تحويلات المغتربين فكانت هي أيضاً على مسار انحداري، وكان نموّ الودائع الضعيف بنسبة لا تزيد عن 2.5% مؤشراً على ضعف التدفقات وعلى عجز ميزان المدفوعات. كذلك كان هناك حديث واسع عن عدم قدرة المصارف على تلبية متطلبات المعيار الدولي IFRS9.
ما لم يُقل، هو أن الدراسة التي أعدّتها لجنة الرقابة على المصارف تشير إلى أن حاجة المصارف لتلبية المعيار الدولي المذكور تبلغ ملياري دولار حتى نهاية عام 2018، وبالتالي كان يمكن للمصارف أن تقتطع من أرباحها السنوية لتعزيز رأسمالها. وما لم يناقش هو الحدّ الأقصى لحاجات مصرف لبنان. هل يكفي مبلغ 12 مليار دولار أم أنه رقم مبالغ فيه كثيراً في ضوء تراكم موجودات بالعملات الأجنبية لدى مصرف بلغت في نيسان 2015 نحو 33.7 مليار دولار.
في رأي عدد من المصرفيين، إن هذه الحاجة لا تبرّر حجم العمليات التي نفذها مصرف لبنان. بل كانت هناك حسابات أخرى في السوق متصلة بإتاحة الفرصة أمام المصارف لتطبيق المعيار الدولي من دون أن تتأثّر أرباحها. كان لا بدّ من أن تحقق المصارف أرباحاً فورية كبيرة.
إذاً، الأرباح المطلوبة ملياري دولار خلال السنتين المقبلتين. في المقابل، إن الإيرادات المحققة كانت أكبر بكثير وخلال أربعة أشهر فقط! هل يعني ذلك أن هناك حاجات أخرى في السوق؟ الإجابة لدى المصرفيين، تقول إن التوسّع بالعملات الأجنبية كان يستهدف إنقاذ بعض المصارف من الديون المشكوك بتحصيلها أيضاً. بعض المصارف مكشوفة على ديون كبيرة في السوق من دون ضمانات أو بضمانات عقارية لا يمكن تسييلها إلا بعد سنوات. من بين هذه الديون، كانت هناك ديون «سعودي أوجيه» وأخواتها والمتعاقدين من الباطن معها، والمقدّرة بنحو 800 مليون دولار. هذه الشركة لم تكن تدفع المستحقات عليها للمصارف منذ فترة طويلة، ما فرض على المصارف أن تصنّف ديونا مشكوكاً بتحصيلها وأن تأخذ مؤونات تغطّيها بشكل كامل. كذلك، كانت هناك خسائر لدى بعض المصارف في عدد من البلدان كان عليها أن تأخذ مؤونات تغطّيها بشكل كامل أيضاً. هذه الخسائر ناتجة عن تدني سعر العملة في تلك البلدان (المصارف اقتطعت مبالغ بالدولار من رؤوس أموالها وحوّلتها إلى عملة البلد الذي تنوي الاستثمار فيه، ومع تدني سعر صرف العملة تراكمت عليها الخسائر في أسواق مثل السودان ومصر وتركيا والجزائر وفي عدد من البلدان الأوروبية أيضاً). إطفاء هذه الخسائر كان مكلفاً جداً على المصارف، أما إبقاؤها في الميزانية فيرتّب عليها أخذ مؤونات تغطّيها، ويعرضها لمخاطر أعلى، وبالتالي يعرّضها محافظها لمخاطر التصنيف.
غير أن اللافت في هذه العمليات، أنها كانت تميّز بين مصارف محظية ومصارف ذات نفوذ أقل. المصرفيون يتداولون بأرقام مهولة عن حصّة مصرف واحد بقيمة تتجاوز ملياري دولار من الإيرادات الإضافية. لا بل إن حصّة خمسة مصارف من إيرادات «الهندسة» كانت تبلغ 70 % من الأرباح.
المصرف الأكبر أطفأ جملة من الخسائر التي كادت «تضرب» ميزانيته، فيما أحد المصارف تمكّن من سداد قرض كان قد حصل عليه من مصرف لبنان لقاء عملية دمج نفذت «على عجل». مصرف آخر حصل على حصّة 9% من الإيرادات فيما حصّته السوقية المقاسة على أساس الأصول تبلغ 3% فقط!
اختلال التوازن في السوق كان محور العديد من المناسبات. رئيس مجلس إدارة مصرف كبير اعترض أمام رياض سلامة بلهجة قاسية. يومها كان مجلس إدارة جمعية المصارف في مهمة مع سلامة خارج لبنان للمشاركة في اجتماعات صندوق النقد الدولي. هذا المصرف خسر بعض كبار الزبائن لديه الذي هربوا في اتجاه المصرف ذي الحصّة الأكبر. زميل له اعترض عند سلامة على «سرقة» زبائنه أيضاً.
ما حصل هو أن مصرفين اثنين خلقا منتجات لجذب ودائع بالدولار. عرض هذان المصرفان على الزبائن توظيف الأموال لديها مقابل 20% (على الأقل) من الأرباح المحققة من العمليات مع مصرف لبنان. المنتج الأول كان ينصّ على وديعة لا تقل قيمتها عن 20 مليون دولار مقابل «عمولة» فورية تدفع بالليرة اللبنانية بنسبة 20%، وعلى أن يحصل المودع في نهاية الاستحقاق على الفوائد السوقية المستحقة له عن وديعته. المنتج الثاني كان ينص على استقطاب وديعة لا تقل عن 10 ملايين دولار، وان تكون العمولة الفورية بالليرة 30% والفوائد السنوية 5%.

إنقاذ بعض المصارف
من الديون المشكوك بتحصيلها والخسائر المحققة في الخارج

ومن مظاهر هذه الهندسة، لجوء بعض المصارف إلى عمليات تحايل أو التفاف للاستفادة من الأرباح المهولة التي يدفعها مصرف لبنان. بعض المصارف كانت تستدين من مصارف أخرى مبالغ بالدولار من أجل توظيفها في العمليات التي نفذها مصرف لبنان. أما بعضها الآخر فكان يشجّع مودعيه على تحويل أموالهم من الليرة إلى الدولار وتحويلهم إلى خارج لبنان للمشاركة في هندسات مصرف لبنان.
لم تبق هذه الوقائع محلية، بل وصلت إلى مسامع المسؤولين في صندوق النقد الدولي الذين سألوا عن الهدف الحقيقي من هذه الهندسة، ولم يكونوا راضين عنها. البنك الدولي أيضاً انتقد العمليات مشيراً إلى أنها زادت ديون الدولة ومصرف لبنان بالدولار، وهذا النوع من الاستدانة هو مصدر الخطر. المدير الإقليمي لمنطقة الشرق الأوسط في البنك الدولي فريد بلحاج، تحدّث في إحدى المناسبات عن وقف توسع مصرف لبنان في التدخّل الاقتصادي، أما تقرير البنك الدولي الفصلي فأشار إلى أثر هذه العمليات الكامن في الانكشاف أكثر على مخاطر سعر الصرف.
صدى العملية لدى بعض المصارف العالمية كان سلبياً، إذ تبيّن أن بعضهم سأل عن وجود حالة «إفلاس» في لبنان تدفع مصرف لبنان إلى بلوغ الفوائد المصرفية مستوى 25% وأكثر... وفي هذا الإطار، تلقت بعض المصارف في لبنان، أسئلة من مصارف المراسلة لديها عن حجم الإيرادات الكبير في ميزانياتها خلال الفصل الثالث وإمكان تحقيق هذه الأرباح في السنة المقبلة وانعكاس هذا الأمر على عوامل الثقة التي ستهتز في حال تدنّى مستوى الأرباح. كذلك تبيّن أن وكالة التصنيف العالمية «موديز» كانت لديها تحفظات كبيرة على مستوى السيولة الكبيرة بالليرة التي نجمت عن عمليات مصرف لبنان. سلامة يقول إنه تمكّن من امتصاص نصف السيولة الإضافية بالليرة التي خلقتها الهندسة بين أيدي المصارف، وأن النصف الباقي مخصص لتمويل القطاع الخاص ولتمويل الدولة.
إذاً، أرباح المصارف النهائية أو إيراداتها من «الهندسة» تحتاج إلى وقت أطول لاحتسابها بصورة كاملة. فالمبالغ التي دفعها مصرف لبنان أرباحاً للمصارف من شراء سندات الخزينة بالليرة، وظّفت المصارف نصفها لدى مصرف لبنان على خمس سنوات بفائدة 5%، وبالتالي فإن الأرباح ستزيد أيضاً، وعندما توظّف المصارف هذه الأرباح بسندات الخزينة سيتحقق لديها أرباحاً إضافية... الأرباح التي جنتها المصارف أكبر بكثير مما هي عليه.
الأهم من ذلك كلّه أن هذه الأرباح أو الإيرادات كلّها مموّلة من المال العام. مصرف لبنان يقول إن أحداً لم يخسر، لكن عليه أن يوضح كيف سدّد ثمن السندات وأرباحها للمصارف، ألم يدفعها من ميزانيته؟ أليست ميزانيته مالاً عاماً. سلامة يقول إن التسليف للقطاع الخاص سيبلغ 5 آلاف مليار ليرة في عام 2017، أي أن الأرباح المحققة من هذا المبلغ وحدها ستكون خارج أي تمويل من المال العام، فيما المبلغ الباقي المقدّر بأكثر من 18 ألف مليار ليرة سيتم توظيفه في الدين العام الذي تموّل كلفته من الخزينة العامة. التناتش بين المصارف والاعتراضات لا شأن لها سوى الحصول على «قضمة» من المال العام.
قضمة قدّمها مصرف لبنان للمصارف وفق حساباته. يشبه هذا الأمر ما يحصل في وزارة الأشغال العامة عندما يقدّم الوزير استدراجات عروض محصورة لمتعهدين محظيين وينأى بها عن متعهدين آخرين. الآليات تختلف لكن الطبق واحد: المال العام.