لم يتحدث أحد عن والدة محمد حمادي ذلك رغم أنها أكبر الخاسرين. ككائنات بشرية عادية، قد نحتاج لتعريف معنى العاطفة أولاً. لتفسير القسوة التي تحلى بها مسؤول حزب الله في كلية الهندسة، الفرع الأول، عندما رفض طلب والدة تريد الاحتفاء بذكرى ابنها.
أن ترى عينيه في وجوه أصدقائه الذين أحبّوه. ألا يعرف هذا المسؤول معنى المواساة ومعنى الحزن ومعنى الألم في عيني الأم التي جاءت إلى الجامعة بحثاً عن آثار ابنها. هذه أسئلة مشروعة قبل الحديث عن القانون والمجال العام والحياة في الجامعة. وإن كان الحق مشروعاً أيضاً في السؤال عن معنى أن يكون الزملاء زملاء ثانياً. ومعنى الوجود في صرحٍ تعليمي، ومعنى السُّلطة في مجالٍ عام. نحتاج إلى الكثير لنفهم ما الذي يدفع مسؤولاً حزبي صغيراً الاعتقاد أنه في جامعة، وأن أصدقاء محمد حمادي في جامعة أخرى. ليس علينا أن نسأله عن سبب انزعاجه من فيروز أو من مايكل جاكسون. هذه مسائل شخصية. وهو حرّ بما يريد سماعه وما لا يرغب بسماعه. سيكون من الصعب الآن إقناعه بأن الجميع حرّ في أن يستمع إلى فيروز وإلى مايكل جاكسون أيضاً. ولكن من حق جميع الطلاب، الذين سألوا ويسألون، لماذا يعتقد ما يُسمى مجلس طلاب الفرع أن هذا الصرح هو ملك خاص بمجرد رفع الأعلام الحزبية وصور الشهداء على جدرانه. ما الذي يدفعه إلى التقاعس عن المشاركة في إحياء ذكرى زميل لهم خسر حياته. هو ومجلسه الذي ــ بحسب كثيرين ــ تقتصر مهماته منذ وقتٍ طويل على تصوير الكراسات وإقامة الندوات التي يستضاف فيها نواب وشخصيات لا تعني شيئاً للجامعة، وللعمل الطالبي المعطّل بسبب غياب الحياة الطالبية منذ وقتٍ طويل. أسئلة كثيرة بحاجة إلى إجابة. ما الذي يقنع المجلس بأن المقاومة، حتى كما يعرفها هو، ليست فخورة بفعلتهِ. طلاب مع المقاومة، منهم روان كرنيب صديقة محمد، وغيرها، اعترضوا كثيراً على تصرف ما يُسمى مجلسَ طلاب الفرع. اعترضوا على الفايسبوك واعترضوا في الجامعة. هل يظن ما يسمى مجلس طلاب الفرع أنه يحافظ هكذا على المقاومة وعلى الإسلام وعلى تقاليد الثورة الإسلامية مثلاً، أم أن المسألة مسألة احتفاء ساذج بالسُّلطة. ما الذي يدفع المجلس فعلاً إلى الاقتناع بأنه قادر على المنع، على اختيار الموسيقى المناسبة والموسيقى غير المناسبة. صحيح أن الحادثة وقعت في كلية الهندسة، لكن المجمع واحد، والمجتمع واحد. وقد شهد الصرح الجامعي استعراضاً، قبل فترة، قيل إنه مجلس عزاء، لكنه لا يمتّ إلى الحسين وإلى ثورة الحسين بصلة. والمجمع نفسه يشهد منذ فترة أطول قمعاً يتجاوز مجلس الفرع ويصل إلى الإدارة، التي حذفت موادّ من المنهج في معهد الفنون الجميلة، لأنها لا تناسب الذائقة الدينية الأصولية، وهي الذائقة نفسها التي تنزعج من فيروز.

ثمة جيل
يحيط بحزب الله يرغب في النهوض بالجامعة وبالحزب

صودف أن أصدقاء حمادي ووالدته أرادوا أن يستمعوا في وداعه إلى فيروز لا إلى مايكل جاكسون، وصودف أن فيروز تحظى بشعبيةٍ واحترام محليين. وصودف أيضاً أن مدير الكلية وافق على النشاط، لكن ما يُسمى مجلس طلاب الفرع رفض. ولا نحتاج للكثير لنفهم لمن السُّلطة في الجامعة بهذه الحالة، وأي نوع من السلطة هذه. وللمناسبة، وقبل الشروع في نقاش أيديولوجي بائس، إنها سُلطة لا تختلف عن سلطة القوات اللبنانية والتيار الوطني الحرّ، عندما يتدخل ما يُسمى مجلس طلاب الفرع في الفروع الثانية، كما تدخل ذات مرة مع طلاب اتهموا بأنهم «من جماعة غريغوار حداد»، ورضخت الإدارة لهم، كما رضخت في الحدث. وفي هذا شهادة للطالب روني الأسعد يمكن الرجوع إليها. إنها ليست سُلطة عسكرية كما يحاول المغالون من أعداء الحزب، الذين يركبون فوق الحدث، ويبدأون باسترجاع النقاش ذاته عن أصولية الحزب وعن عقيدته، التي هو حرّ فيها. قد يكون هذا مدخلاً للإجابة. لفهم العلاقة بين إدارة الجامعة والطلاب، خاصةً أن معظم الطلاب الذين سألوا أثناء البحث في هذه الحادثة أجمعوا على أن الأحزاب نفسها هي التي تزكّي الإدارة وهي التي تزكّي ما يُسمى مجلس طلاب الفرع. فمجلس الفرع لا علاقة له بما يحدث في حلب ولا في الموصل، إنه مسألة لبنانية صرفة. إنه منهج لبناني تقليدي بالتعامل مع الجامعة يتجاوز حزب الله. وفي الوقت عينه، إنه مدخل بالنسبة إلى أعداء حزب الله، لمحاصرة بيئة الحزب التي تحاول النهوض، فتواجهها أصولية بعض المتشددين في الحزب، وتحاصرها مجموعة أخرى من اللبنانيين الذين ينظرون إلى بيئته نظرةً عنصرية، فيحمّلون البيئة بأسرها أوزار تصرف سائد في معظم الجامعة اللبنانية. تصرف لا سبب له إلا الشعور بالقوة، في الفرع الأول وفي الفرع الثاني وأينما غابت دولة علي بابا، المنشغلة بتقاسم قالب الحكومة. الدولة المعفاة من النقاش ومن المسؤولية، والأحزاب التي أعفت نفسها وتعففت عن المشاركة بدورها في الدولة والإجابة عن الأسئلة حول هذا الدور.
مثل كثير من اللبنانيين مات محمد حمادي بحادث سير ولم ينتبه أحد إلى أن هذا يتفاقم ويتكاثر. كيف سنشرح هذا الآن، وبأي خيبة؟ أن يموت شاب بحادث سير في لبنان هو دائماً حدث في مصاف العادي. لا علاقة للحكومات، لا علاقة لوزارة الأشغال، ولا لوزارة الداخلية، ولا للبلديات، ولا للأحزاب التي تتناتف بنهم الحقائب والوزارات وفق حسابات الطائفة وقوالب الجبنة. القوالب المغمسة بعرق فقراء البلاد ونسبتهم تتسع، وبدمائهم أيضاً التي تسقط على الطرقات من دون أن يعترض أحد. لا مسؤولين عن الأرواح في الطرقات وفي المجال العام، علينا أن نتفق على أن الحياة هنا ضربة حظ. وهكذا يجري التعامل مع قلائل الحظ: كل شيء ينسب إلى القضاء والقدر. كل شيء يحدث هو مشيئة إلهية يجب على الجميع أن يتصالح معها. ومع مرور الوقت، صار خبر وفاة أحد ما بحادث سير خبراً عادياً ومسوغاً، لا اعتراض عليه إلا دموع أقارب الضحايا، والمتضررين المباشرين في لحظة الحادث. لكن والدة محمد قبلت بما يقبل بهِ اللبنانيون. ولكن المسؤول الصغير في ما يُسمى مجلس طلاب الفرع، شعر بأنه يمكنه الحلول مكان الدولة ومكان الحزب ومكان المجتمع، وأن يمنع والدة من وداع ابنها بصحبة أصدقائه، ومن الاستماع إلى فيروز، لأن ذلك يزعجه ويزعج أصدقائه.
بعد جولة على طلاب في الجامعة من مؤيدي الحزب، يتضح أن هؤلاء ليسوا راضين عن هذا الخطأ الكبير، ولا عن سلسلة من الأخطاء التي تحدث باسم الحزب. وهم متدينون أيضاً. ما لا يعرفه كثيرون من الذين يحبّون أبلسة حزب الله، بسبب تصرفات وتجاوزات أحياناً تصير لا تطاق من عناصر متشددة فيه، أن ثمة جيلاً يحيط بحزب الله، يرغب في النهوض بالجامعة وبالحزب. وهو جيل يتعرض للحصار. تارةً يفاجئه متشددون من الحزب عندما ينسون أنهم في مجالٍ عام كالجامعة، وتارةً أخرى تطاردهم التعليقات التي تحوّل قناعاتهم ومعتقداتهم إلى مادة للسخرية الرخيصة على فايسبوك. ما لا يعرفه أحد هو أن الحادثة الأخيرة وأخواتها هي قضاءٌ لا قدر، وأن العلاج ليس بالتعميم، وأن متضرراً كبيراً في ذلك النهار يستحق الاعتذار، هو والدة محمد حمادي، التي حولوا ذكرى ابنها إلى عراك.