كيف يواكب لبنان الرسمي تطورات معركة حلب الاخيرة واحتمالاتها؟ما كادت تنتهي ازمة انتخاب رئيس للجمهورية، حتى انشغل لبنان بأزمة التأليف الحكومي واستعادة الكلام عن قانون الانتخاب، لتعود القوى السياسية الى الدوران في حلقة مفرغة من نقاش بات عقيماً، ومملاً، حول توزع المغانم الحكومية، او استعادة قانون الستين تكريساً لمصالح فئات سياسية.

وسط كل ذلك، ينشغل العالم بما يجري في حلب، وتداعيات التطورات السورية على كافة الجبهات التركية والايرانية والعراقية والروسية، من دون ان يظهر لبنان على استعداد فعلي لمواكبة مسار من المبكر التكهن بنتائجه الحتمية.
لا شك ان عامين ونصف عام من الشغور الرئاسي، تركت اثراً فادحا في مستوى مواكبة لبنان لملفات اساسية تندرج في اطار الحرب السورية وتبعاتها المباشرة على الواقع المحلي. قد تكون قضية النازحين السوريين اول الملفات التي غرقت في بازار المتضامنين عشوائيا، مع الآلاف من السوريين الوافدين الى لبنان ليتوزعوا في جميع مناطقه، تحت شعار الحملات الانسانية، من دون الالتفات الى معايير امنية وسياسية واجتماعية، وتدابير احترازية طبقتها دول مجاورة لسوريا. في مقابل دعوات سياسية مكثفة لاحتواء الموجات المتتالية التي لا قدرة للبنان على تحمل اعبائها، بامكاناته القليلة قياسا الى قدرات دول عربية لم تقدم للنازحين ما يذكر لاستيعابهم وتقديم المعونة لهم.
واذا كانت قضية النازحين عنوانا اساسيا في ادبيات التيار الوطني الحر قبل ان يصل العماد ميشال عون رئيسا الى قصر بعبدا، وتحول بسببها رئيس التيار الوزير جبران باسيل مكسر عصا ومحط هجوم متكرر عليه كلما تحدث عن النازحين السوريين، فان هذا العنوان يصبح اليوم من الملفات الملحة والطارئة الموضوعة امام رئيس الجمهورية، ليس من باب تكرار لازمة سياسية، بل من باب الضرورة القصوى، ولا سيما في ضوء العوامل الامنية التي بدأت تخيم على اكثر من منطقة حدودية، بعد تطورات سوريا الاخيرة.
وهذه التطورات ستضع لبنان الرسمي تحديداً، لا المعارضين والموالين للاسد ومعركة حلب الذين اصبحت مواقفهم معروفة، امام محك جديد، في اختبار قدرة العهد الجديد على التعامل مع التطورات السورية، التي يستعجل بعض السياسيين رسم سيناريوهات مبكرة لها. اذ تراوح القراءات بين الذين يجزمون ببداية النصر النهائي للرئيس السوري بشار الاسد، وانسحاب حزب الله من سوريا، والذين يرسمون مستقبلا تقسيميا لسوريا بين المجموعات التي فرضت نفسها على رقع جغرافية صارت معروفة، وتمدّد حزب الله وبقائه في البقع التي انتشر فيها، وصولا الى حد مقاربة دوره لبنانيا واعطائه دورا يشبه ما اعطي للحشد الشعبي في القانون الذي اقره البرلمان العراقي اخيراً.
في كلتا الحالتين، تتعدى التطورات الاخيرة مرحلة التكهنات، في ظل رسم وقائع جديدة على الارض، ومحاولة الانظمة المجاورة لسوريا التكيف مع هذه التطورات، ومجاراة تداعياتها، مع ابقاء كل الاحتمالات مفتوحة، وخصوصا في ظل الكلام عن ان ما يجري في حلب محصور فيها، وان حلب لن تكون خاتمة حروب سوريا الطويلة، بل قد تكون خاتمة التدخل الروسي العسكري في الشكل الكبير الذي جرى فيه.
وفيما تنتظر سوريا والمنطقة تسلم الادارة الاميركية الجديدة مهماتها لاستطلاع موقف الرئيس الاميركي المنتخب دونالد ترامب فعليا من مصير نظام الاسد، ومفاوضاته مع روسيا التي تحاول خلق دور أحادي لها في سوريا، فان لبنان مقبل على مرحلة حساسة داخليا، تعكس الخلافات المستمرة على مقاربة الوضع السوري.
فتدخل حزب الله في حرب سوريا، ومشاركته في معركة حلب، لا صلة لهما بالموقف اللبناني الرسمي، لا سابقا ولا حاليا. وانتخاب تيار المستقبل لعون، لا يعني التسليم بأي من القراءات الاقليمية السابقة لعون. ووصول عون الى قصر بعبدا يعني ان مرحلة تدوير الزوايا مطلوبة، لأن مواقف عون العلنية من الرابية تختلف جذريا عن مواقفه من بعبدا، ازاء سوريا وحروبها الطويلة ومستقبلها، وخصوصا ان عون لن يبقى وحيداً في مقاربة الشأن السوري، بعد تأليف الحكومة، ووزير الخارجية جبران باسيل المفترض ان يبقى في منصبه سيكون ايضا تحت سقف قرار الحكومة ورؤيتها لاي تطور عربي، كما سبق ان قال بنفسه بعد الضجة التي اثيرت، من دون وجه حق، حول موقفه في الجامعة العربية.
لذا يكمن سر العودة الى الحديث عن الحياد كأهون الشرور، تفاديا لاي مطبات وعثرات لا يريدها اي طرف من الذين شاركوا في ترتيب انتخاب رئيس للجمهورية، في انتظار استتباب الوضع الداخلي (حكومة وانتخابات نيابية) وبلورة اكثر وضوحا للوضع السوري. وهو امر قد يساهم في تخفيف توتر جميع الافرقاء، ولا سيما بعد الاحتضان السعودي لانتخاب عون ودعوته الى زيارتها ما اثار حساسيات محلية، لكن الوقوف على الحياد لا يعني التخلي عن رسم استراتيجية العهد في مقاربة انعكاس وضع سوريا ومستقبلها على لبنان. والزخم الديبلوماسي الغربي والاقليمي الذي يشهده لبنان حاليا، يمكن الافادة منه في تحويل الزيارات ذات المستوى الرفيع، التركية والالمانية والكندية، بعد الزيارات السعودية والقطرية، وغيرها المتوقعة، من مجرد تهنئة بالانتخاب الى تفعيل الدعم الاقليمي والدولي للبنان في مواجهة محنة الارتدادات السورية عليه، على كل المستويات الاقتصادية، وهي باتت تمثّل اعباء مكلفة، والامنية التي تتزايد في شكل خطر، مع الضغط المستمر للمساهمة في حل ازمة النازحين المستفحلة، لانها اولا وآخرا من العناصر المتفجرة داخليا.