إن الجدل المستمر بشأن الوزراء في الحكومة القادمة لا يستند إلى البحث في كفاءة المرشحين واستعدادهم للعمل معاً كفريق متجانس لوضع برنامج الحكومة والسعي المشترك لتطبيقه. فالخلاف بين الأشخاص المعروضين للتوزير لا يقتصر على السياسة، بل يتجاوزها ليتحول إلى تنافس على مراكز السلطة وتزاحم في سباق جمع الثروات.
كيف يمكن أن يعمل هؤلاء معاً على تطبيق خطط معالجة النفايات وإصلاح شبكتي الكهرباء والمياه وتوفير العلاج للمرضى وتحسين البنى التحتية وإدارات الدولة وتحقيق استقلالية القضاء وإبعاد الأجهزة الأمنية عن الأجندات السياسية والاتفاق على استراتيجية دفاعية للبنان؟
إن عدم إيلاء مبدأي الكفاءة والتجانس المتلازمين، أي الاهتمام والتركيز على المحاصصة السياسية والطائفية والمذهبية واختيار الوزراء بحسب ولائهم لشخص الزعيم، كفيل بعدم منح مجلس النواب الثقة للحكومة. لكن بما أن المجلس مؤلف أصلاً من نفس القوى السياسية والطائفية التي تشكل الحكومة، يصبح عرض برنامج الحكومة على المجلس مضيعة للوقت، وتصبح عملية نيل الحكومة الثقة مسألة شكلية ومحسومة سلفاً.
أما البيان الوزاري فلا جدوى من العمل الجدي على صياغته، حيث إن الجزء الأكبر من مضمونه سيكون كمضمون البيانات الوزارية منذ الاستقلال، يتشابه إلى حد التطابق في بعض الأحيان باستثناء بعض الفقرات السياسية التي لا تشير إلى مشاريع خدماتية إنمائية وإصلاحية وطنية شاملة. غير أن «البيانات إذا تشابهت من حيث المرامي والغايات، فإنها تختلف دون ريب في تطبيقها وفي قدرة الحكومة، القائلة بها، على تنفيذها» (كما ورد في نص بيان حكومة الرئيس الراحل عبد الله اليافي عام 1953). العبرة إذاً في التطبيق وفي «قدرة الحكومة على التنفيذ».

توافق الديكتاتوريين
على تشكيل حكومة يحوّل النظام اللبناني إلى نظام شمولي مريض

في التطبيق لا بد من مراجعة أداء الحكومات السابقة ومقارنتها بما ورد في بياناتها. وبما أن ما قصدته حكومة اليافي هو الاختلاف في منهجية التطبيق، فإن الحكومات التي ترأسها سعد الحريري وفؤاد السنيورة منذ عام 2005 خارج المقصود حيث إنها لم تسعَ أصلاً بنحو جدي إلى تطبيق ما ورد في بياناتها الوزارية. فورد في بيان الحكومة التي شكلها الرئيس السنيورة عام 2005 مثلاً، أن الحكومة «تتمسك باستقلال القضاء تمسكاً مطلقاً وتؤكد تصميمها على إجراء الإصلاحات اللازمة وإعطاء هذا الأمر، كلّ أبعاده الضرورية لاستقامة عمل المؤسسات وفعاليتها». لم يطبق ذلك إطلاقاً، بل تناست الحكومة «تصميمها على إجراء الإصلاحات» واستعاضت عنه بدعوة القوى الغربية والأمم المتحدة إلى التدخل في اختصاص القضاء اللبناني. وكانت هذه الحكومة قد نالت الثقة بغالبية 92 صوتاً. أما بيان الحكومة التي شكلها السنيورة عام 2008، فنصّ بيانها على أنها «تلتزم بالإسراع في تحديث المرفق القضائي، على صعيد التشريعات والتقنيات والمعلوماتية القانونية، تنفيذاً لدراسات ومشاريع مقترحة». لم تسعَ الحكومة جدياً إلى تطبيق ذلك «الالتزام»، وكانت قد نالت الثقة بغالبية 100 صوت في البرلمان. حكومة الحريري عام 2009 نالت الثقة بأغلبية 122 صوتاً وجاء في بيانها مثلاً: «نقل مسؤولية السجون إلى وزارة العدل وإنشاء مديرية عامة لها واقتراح تنظيمها وهيكليتها»، و»إكمال مكننة المرفق القضائي». لم يطبق ذلك، ولم تخصص الحكومة جلسة خاصة لبحث مشاكل السجون أصلاً، ولم تُطرح الثقة بالحكومة.
أما بشأن «قدرة الحكومة على تنفيذ» ما ورد في بيانها، فيفترض أن يعلم الوزراء بقدراتهم قبل وضع الخطط والبيانات، أليس كذلك؟ أم أن العبرة في صفّ الكلام الجميل لتسلية نواب حسموا منح الثقة للحكومة قبل الاطلاع على بيانها؟
إن التداول الحاصل بشأن حصص الرؤساء والطوائف والمذاهب والمناطق والأحزاب والتيارات يدل على توجه محدد عن سابق تصور وتصميم لتعطيل الآليات الرقابية وعزل أي قوة معارضة للحكومة لمنع المحاسبة. وبالتالي، إن مداولات تأليف حكومة شراكة وطنية في لبنان تؤدي غالباً إلى إهمال الجدوى الأساسية لمجلس الوزراء، وهي إدارة مؤسسات الدولة بنحو سليم وتوفير الخدمات للمواطنين والسعي إلى معالجة المشاكل التي يعانون منها وتحديد السياسة الخارجية للدولة وتطوير الإنتاج الاقتصادي والعلمي والثقافي.
مجلس الوزراء تحوّل اليوم، بفضل نظام المحاصصة، إلى مرآة عن مجلس النواب. تجسّد ذلك فعلاً من خلال مطالبة بعض القوى السياسية بتوزير يتناسب مع حجم تمثيلها في البرلمان. لا يعطّل ذلك المهمات الرقابية لمجلس النواب فحسب، بل يمنح الحكومة سلطة تتجاوز الحدود التي وضعها النظام الديموقراطي لها.
أخطر ما في الأمر، أن حدود السلطة في لبنان اليوم لا يضعها مجلس الشعب كما تفترض مبادئ الحكم الديموقراطي، بل تحددها طبيعة العلاقة بين قادة القوى السياسية والطائفية في إطار نظام المحاصصة. وإذا كان كل زعيم يحكم طائفته ومذهبه وحزبه وتياره ديكتاتورياً من خلال النظام الزبائني والمال والعصبية الفئوية والتوريث السياسي، فإن توافق الديكتاتوريين على تشكيل حكومة يحوّل النظام اللبناني إلى نظام شمولي مريض ويضرب بالدستور عرض الحائط.