«إنّ احتمال بقاء أو تجديد الودائع الجديدة التي تدفقت إلى لبنان في إطار الهندسة المالية الأخيرة، ليس مؤكداً، على الأقل جزئياً». هذه العبارة وردت في ختام الفصل الرابع من القسم الأول في التقرير السنوي لجمعية المصارف، حيث تركّز الحديث عن العمليات التي نفذها مصرف لبنان بآلياتها وأهدافها وتأثيرها، وهي تخفي قلقاً واضحاً لدى جمعية المصارف من عدم كفاية التدفقات الرأسمالية لتغطية حاجات لبنان التمويلية، ولا سيما في ضوء عدد من المعطيات الإقليمية والدولية التي تعزّز هذا القلق.
لم تتمكن اللهجة التقنية من إخفاء القلق الوارد في تقرير جمعية المصارف في الفصل المعنون «السياسة والتطورات النقدية»، وإن كان التقرير يصفه بـ«التحدّي الأكبر». طبيعة هذا التحدي نقدية، تكمن في «عودة منحى التباطؤ إلى المستويات التي كانت سائدة في عام 2015 وفي النصف الأول من عام 2016 (أو ربما أقلّ)، وهي أدنى من حاجات لبنان التمويلية على المدى المتوسط. وهذا يعني أن المصارف بدأت تشعر بتثاقل التدفقات النقدية وأنها تتوقع، وفق معطيات متوافرة لديها، أن يواصل هذا المسار السلبي خلال الأشهر المقبلة، ما يؤدي إلى المزيد من الضغط على السياسة النقدية.

التراجع في أسعار النفط والأزمة في الخليج سيؤثران على الإنفاق الاستثماري


رغم ذلك، لم يقدّم التقرير أي معطيات تفصيلية، إلا أنه عدّد 8 عناصر أساسية لها أثر واسع في التدفقات النقدية، منها ثلاثة عناصر محلية، و5 عناصر إقليمية ودولية، هي: «اشتداد التنافس الإقليمي على اجتذاب الرساميل، تراجع في مستويات السيولة لدى الدول الخليجية، ما يؤثّر في الاستثمارات القادمة منها إلى لبنان، ارتفاع الفائدة على الدولار وتوقع ارتفاعها أكثر في عام 2017، الأثر الانكماشي لتباطؤ النمو الاقتصادي في الدول الخليجية وفي دول أخرى مصدرة للنفط يعمل فيها لبنانيون بحجم التحويلات إلى لبنان، وذلك بعد التراجع الكبير لأسعار النفط، استمرار الاضطرابات الإقليمية، التقصير في الأداء الحكومي في إدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية في البلد، عدم المضي في الإصلاحات الضرورية على صعيد المالية العامة. وجمعيها عوامل تؤدّي إلى تراجع رغبة المستثمرين في التعرض لمخاطر لبنان. يضاف إلى ذلك، أن احتمال بقاء أو تجديد الودائع الجديدة التي تدفقت إلى لبنان في إطار الهندسة المالية الأخيرة، ليس مؤكداً، على الأقل جزئياً».
باستثناء موضوع الهندسات المالية التي نفذها مصرف لبنان، ليس بين هذه العناصر الثمانية أي أمر مستجد. كل هذه العناصر تعدّ مؤشرات أساسية في عمل المراقبين، وتجري قراءتها النهائية في نتيجة ميزان المدفوعات. وقد كانت هذه المؤشرات هي الدافع والحجّة وراء تنفيذ الهندسات المالية في النصف الثاني من 2016 بعدما تبين أن ميزان المدفوعات سجّل عجزاً تراكمياً بقيمة تزيد على 9 مليارات دولار، وأن العجز ناتج من تباطؤ في التدفقات بالعملات الأجنبية إلى لبنان التي تشكّل تحويلات المغتربين عمودها الفقري، بالإضافة إلى الاستثمارات الأجنبية المباشرة وباقي التدفقات الرأسمالية، وأن دول الخليج تمثّل مصدراً أساسياً لهذه التدفقات والتحويلات التي بدأت تسجّل تباطؤاً.
هذا الأمر يضع ما يشير إليه تقرير جمعية المصارف في خانة بالغة الأهمية، وذلك ربطاً بالأثر الممكن لهذه الضغوط على التدفقات النقدية وإمكانية سقوط ميزان المدفوعات في العجز مجدداً واضطرار مصرف لبنان للجوء، مجدداً، إلى هندسات جديدة مماثلة أو مختلفة قليلاً عمّا قام به في النصف الثاني من 2016، سواء بأهدافها أو بأحجامها ومقاربتها. فمن المعروف أن نسبة وازنة من تحويلات المغتربين تأتي من دول الخليج التي لا تعاني من انهيار أسعار النفط فحسب، بل تعاني من ظروف أمنية وسياسية صعبة من الحرب في اليمن وتمويلها، إلى القطيعة مع قطر... التراجع في أسعار النفط والأزمة السياسية والأمنية في الخليج سيكون لهما أثر واسع في الإنفاق الاستثماري، ما ينعكس مباشرة على المشاريع المنشأة تجميداً أو إلغاءً، ما يعني أن الشركات ستخفض رواتبها أو تصرف جزءاً من عمالها... انهيار أسعار النفط والأزمة السياسية هي كرة نار تتدحرج ويتأثّر بها لبنان انطلاقاً من تحويلات المغتربين التي تعدّ الرافد الأساسي للتدفقات الرأسمالية التي تنعكس إيجاباً في ميزان المدفوعات.
في هذا الإطار تأتي النقطة الثامنة في تقرير جمعية المصارف الذي تحدث عن احتمال بقاء أو تجديد الودائع الجديدة التي تدفقت إلى لبنان في إطار الهندسة المالية الأخيرة. هذه النقطة بالتحديد، لم تفسرها جمعية المصارف، إلا أنه بات معروفاً أن هناك مصارف لجأت إلى خلق منتجات مصرفية تساعدها على جذب مبالغ إضافية بالعملات الأجنبية تتيح لها استفادة أوسع من الهندسات المالية. هذه المنتجات تفرض على الزبائن تحويل أموالهم بالدولار إلى لبنان وتجميدها بالليرة اللبنانية لفترة سنة أو سنتين لتوظيفها في الهندسات والحصول على عائد تشاركي مع المصرف من الأرباح المحققة. المدى الزمني المحدود لهذه المنتجات، يعني أن هناك مبالغ يستحق أجلها بعد مرور سنة أو سنتين، وبالتالي قد لا يقرّر أصحاب هذه الودائع، أو المستثمرون الذين وظّفوا أموالهم في هذه المنتجات، تجديد استثمارهم في هذه المنتجات، ما قد يخلق طلباً على الدولار يوازي قيمة المبالغ الراغبة بالانسحاب. الانسحاب بحدّ ذاته قد يترك أثراً سلبياً في عجز ميزان المدفوعات.