كنا لا نزال دون العاشرة، عندما كان الفلسطينيون المقيمون خارج مخيم عين الحلوة يقصدونه للحصول على بعض الدعم. كان رفيقنا ابراهيم طه يضحك وهو يحمل زجاجة عصير تم تنظيفها وتنشيفها بعناية، ويركض قبل أن يقفل باب المستوصف، للعودة بقليل من دواء للسعال. لم يكن ممكناً الحصول على عبوة كاملة مقفلة. ولم يكن يومها ممكناً فهم من المسؤول عن ذلك: الوكالة أم الذين يتولون الأمر؟
مرت سنوات طويلة قبل أن ننتبه الى أن اسم أحمد العلي لم يشطب من لائحة المتوفين. قالت لنا أمه إنها لا تزال تستخدم اسمه للحصول على «إعاشات» إضافية. كانت تقول: ربما يجب أن يكون لديك عشرة أولاد، لتحصل على ما يعيل أربعة فقط.
والدة أحمد، وأمهات الآخرين، لم يتأخّرن يوماً في ضم «الأونروا» الى لائحة المشمولين بدعاء أن تصيبهم الريح الصفراء، فلا تبقي منهم ولا تذر. كان الأمر محطة بعد كل صلاة. صحيح أن اللاجئ الفلسطيني لا يثق بأحد، وهذا حقه، لكن الصحيح أكثر، أن وكالة الأونروا كانت تمثل اليد البيضاء التي يستخدمها العالم الظالم لتثبيت الاحتلال من جهة، ولإقناع اللاجئين بالبحث عن فرصة لحياة أخرى بعيداً عن ديارهم. ولطالما استعان لاجئون بموظفين دوليين من هذه الوكالة للحصول على مساعدة تتيح لهم الهجرة الى العالم المتقدم!
في فترات لاحقة، وبعد التراجع في وضع القوى والفصائل الفلسطينية، صار التوظيف والعمل في مؤسسات تابعة للوكالة أمراً مرغوباً فيه عند كوادر لديهم ما يقدمونه لشعبهم. لكن ليس كل من عمل في الوكالة كان يخرج منها بذاكرة إيجابية. ليس الأشخاص الأجانب هم السبب. قلة كانت محل شبهة دائمة، لكن الغالبية سعت للعب دور في تخفيف معاناة اللاجئين. لكن الغضب مصدره الضغوط التي لا تتوقف، والتي تهدف الى شطب هوية اللاجئ، ودفعه كل الوقت الى البحث عن طعامه وبعض الخدمات، ونسيان أصل المشكلة. ومصدر التوتر الفعلي، يكمن في أولئك الذين يتولون مواقع قيادية في هذه المؤسسة، ويتم اختيارهم بعناية من قبل أجهزة في الأمم المتحدة، سرعان ما يتبين أنها تخضع للحسابات السياسية والأمنية ربطاً بحجم نفوذ العدو والدول الراعية له.
هؤلاء المحظيون ينسون سريعاً أنهم من الشعب نفسه، وأن قسماً كبيراً منهم لاجئ أيضاً، وأن في بيته من روى على مسمعه حكايات التهجير القسري في محطتي الـ 48 و الـ 67. وبدل أن يتمسكوا بحقوقهم كافة، الوطنية والثقافية والسياسية قبل الوظيفية، تراهم يصبحون غرباء، همهم إرضاء المدير الأجنبي، وتلقّي الإشادات من «فوق» حيث عقلهم المريض يبقيهم في درك أسفل، أمام السيد الأبيض نفسه.
مشكلة الأونروا، سابقاً وحاضراً ومستقبلاً (إن أُبقيَ عليها)، تبقى في القيادات الفلسطينية المسؤولة عن القوى والفصائل، الى جانب الموظفين الفلسطينيين والعرب في الوكالة نفسها، ثم في حكومات الدول المستضيفة لهؤلاء اللاجئين، بالإضافة الى فئة من «جيل المنظمات الدولية غير الحكومية».

في إدارة هذه الوكالة من يشعر بأن لديه الحصانة الكاملة لمنع تعرضه لأي نوع من النقد

هؤلاء، جميعاً، لم يتصرفوا يوماً بأن في مقدورهم أن يفرضوا على العالم، ممثلاً بالأمم المتحدة أو بادارة الوكالة نفسها، أن تتصرف بما يتناسب وحاجات اللاجئين، وبما يتوافق مع مهمتها الأساسية، وبالتالي منعها من الذهاب بعيداً في ترجمة برامج وأفكار ومشاريع تستهدف ابتزاز الفلسطينيين المستفيدين من هذه الخدمات، وصولاً الى مقايضة هويتهم الأصلية بفتات من خدمات يجب على العالم كله توفيرها.
الجانب الآخر من هذه المشكلة، أن في إدارة هذه الوكالة، ومن فوقها، من يشعر بأن لديه الحصانة الكاملة لمنع تعرضه لأي نوع من النقد. وهو ما يفسر خطاب الرد المرسل الى «الأخبار»، حيث يمكن ملاحظة طريقة التفكير، والأسلوب في الكتابة، والفوقية التي تعكس راحة هؤلاء السفلة في مخاطبة من حولهم.
هذا الرد (نصه على الصفحة 22 - 23)، إنما يعني بالنسبة إلينا الآتي:
ــــ ممنوع مناقشة الوكالة إلا بما يتوافق مع ذائقتها. ومن يفعل خلاف ذلك فهو يستحق الملاحقة القانونية.
ــــ أن الوكالة خارج المراقبة وخارج النقد، وبالتالي فإن مجرد أن تلجأ صحيفة مثل «الأخبار» الى الغوص في أمعاء هذه الوكالة جريمة نستحق العقاب عليها.
ــــ أن هذه الفرقة من التافهين تعتبر أن الدولة اللبنانية، وربما غيرها، يجب أن تكون في خدمتها ليس لمنع نقدها، بل لأن تستحصل لها على اعتذار مع سحب لكل الوثائق والنصوص المنشورة.
ــــ أنهم لا يريدون لأحد مواصلة البحث في ما يقومون به، وهو بيت القصيد.
بالنسبة إلينا، في «الأخبار»، نحن لا نزال محل مطاردة من جانب المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، وهي، بالمناسبة، من صناعة الأمم المتحدة نفسها. وانضمام هذه الوكالة الى المحكمة في ملاحقتنا باسم القانون الدولي لن يغيّر شيئاً، بل ربما ساعدنا التهديد في لفت انتباه مطلقيه، بأنكم إن فتحتم معركة ستندمون عليها، وستتذكرون أنكم أخطأتم في مجرد التخاطب معنا بهذه الطريقة.
ننصحكم بالاعتذار فوراً، وقد أعذر من أنذر!