أربعة عقودٍ مرّت، ومجزرة إهدن لا تفارق وجدان النائب سليمان فرنجية، وجزء كبير من اللبنانيين. قد تختلف ذكرى هذا العام عن سابقاتها، لأن الحدث يتعدّى شعور المظلومية التاريخي والاحتفال السنوي، إلى إحساسٍ عارمٍ بمحاولات الإلغاء السياسي لدور فرنجية ووجوده، يلامس حدّ الإلغاء الجسدي الذي تعرّض له والده عشيّة 13 حزيران 1978.وللمفارقة، فإن الأسباب التي صُفِّيَ لأجلها طوني فرنجية، يوم تناحرت المارونية السياسية بين مشروعين: «انعزالي متقوقع» و«عروبي منفتح»، تكاد تتقمّص عناوين جديدة/ قديمة اليوم، تحاكي انقساماً مستمراً حول رؤية مستقبل المسيحيين في لبنان والمشرق.
بعد انتخاب الرئيس ميشال عون، خرج فرنجية ليعلن انتصار «الخطّ»، متخطيّاً «طعنة» التحالف «القواتي ــ العوني»، مع أن دواعي التحالف، بالنسبة إليه، لا تتعدّى «التحالف ضدّه».

و«الخطّ» في مفهوم رئيس تيّار المردة، هو التحالف الذي تعمّد بالدّم بين الرئيس السوري بشّار الأسد وحزب الله وقوى 8 آذار في لبنان، ودفع أثماناً باهظة على مدى السنوات الماضية في مواجهة عزل لبنان عن محيطه وتقسيمه. «الخطّ» ذاته، الذي استثمر «إلى حدٍّ ما»، صموده على الأرض السورية، ليفرض عون رئيساً للجمهورية اللبنانية.
ومع أن فرنجية تعمّد من تصريحه القول إن مرحلة جديدة بدأت في العلاقة مع عون، الرئيس، مُجَيِّراً الانتصار للحاضنة السياسية التي احتوت التيار الوطني الحرّ واحتواها منذ ما بعد انتخابات 2005، إلّا أن الأشهر السبعة الأخيرة، وضعت زعيم المردة أمام واقعٍ واحد: مقاومة «حرب الإلغاء الناعم».

تخشى المردة من تحوّل شدّ العصب الطائفي إلى محرّك لتفتيت لبنان



تيّار مثل المردة، ووريث مثل فرنجية، «لا تنهيه المواجهات، بل تقوّيه وتشدّ عصبه»، تقول مصادر قيادية بارزة في التيار. وعلى هذا الأساس، قرّر سليمان فرنجية مواجهة «الحرب الناعمة»، والقاسية أحياناً، بكلّ الوسائل المتاحة، وأولها الخروج أبعد من أسوار أقضية الشمال، إلى «عقر دار الخصم»، أي كسروان وجبيل، وصولاً إلى بشرّي. منذ سنوات، وقرار المردة بتوسيع الانتشار الحزبي متّخذ، من المتن إلى كسروان وبعبدا وزحلة، لإبراز دور فرنجية كزعيم «مسيحي وطني» لا يمثّل منطقته فحسب. لكنّ هذا القرار، جرى تجميده، بوساطة من «الحلفاء»، وبفعل علاقة الانسجام الكامل مع عون، رئيس التيار الوطني الحرّ حينذاك، على قاعدة أن مسار عون منذ حرب تمّوز 2006، يمثّل الخيارات الاستراتيجية للمسيحيين في لبنان والمشرق، وتيار المردة يشكّل جزءاً من هذه الخيارات تحت عباءة عون، «بيّ الكلّ».
أمّا اليوم، ومع استعار حدّة الخطاب الطائفي الذي يدلي به الوزير جبران باسيل وما تعكسه من شدّ عصب في «الشارع المسيحي» يُهدّد بتفجير عصبيات إسلامية مقابلة، ومحاولات تجيير رئاسة الجمهورية لفرض توريث سياسي ــ عائلي مقبل، صار عون «بيّ باسيل» وحده برأي المردة، وبات الافتراق السياسي واقعاً أليماً.
سؤال المردة عن سرّ النّشاط الزائد لرئيس تيّارهم في الآونة الأخيرة، يقابَل بصمت. يفضّل المعنيّون ترك المواقف لفرنجية نفسه، الذي سيلقي خطاباً في القدّاس الذي يُنظّم مساء غدٍ الأحد بمناسبة ذكرى المجزرة.
غير أن نشاط فرنجية في الأسابيع الماضية لا يمكن إخفاؤه. لا يمرّ أسبوع إلّا وتنشر صفحات المردة على مواقع التواصل الاجتماعي صوراً لرئيس التّيار محاضراً أمام مجموعات ورؤساء بلديات وفعاليات من مختلف الأقضية: الكورة، جبيل، كسروان، البترون، وأخيراً بشرّي. ينتقي المسؤولون في إعلام المردة بضع كلماتٍ منمّقة من محاضرات فرنجية وينشرونها. لكن أكثر من مشارك في اللقاءات، أكّد لـ«الأخبار» أن فرنجية بات «يكشف المستور»، ويشنّ على التيار الوطني الحرّ هجومات عنيفة، ويجري تقييماً شاملاً لمسيرة العهد الرئاسي و«النجاحات» والإخفاقات التي حقّقها حتى اليوم، كذلك فإنّه يستخدم مصطلح «النّفاق السياسي». وهذا «النّفاق»، يبدأ بالنسبة إلى فرنجية، من وثيقة «إعلان النوايا» بين التيار الوطني الحرّ والقوات اللبنانية، التي أثبتت بالنسبة إليه، أن غايتها إخراجه فحسب وإيصال عون إلى الرئاسة، وليست تحالفاً عميقاً، بدليل الصّراع المحتدم بين القوات والتيار حول قانون الانتخاب وملفّ الكهرباء وملفّات التعيينات وعودة التراشق الإعلامي بين الطرفين. ثمّ يستند إلى التحوّل في الخطاب، من «المسيحية المشرقية»، إلى المطالبة بفئويّة ضيّقة في قوانين الانتخاب وفي الوظائف العامّة، التي لا يزال المسلمون أنفسهم يحرصون على إبقائها في يد المسيحيين. ويركّز فرنجية في محاضراته على المقارنة بين شعارات التيار الوطني الحر في السنوات الماضية، والممارسة في الأشهر الماضية، من ملفّ الدولة المدنية إلى النسبية إلى محاربة الفساد. ويشرح كيف أن التيار صوّر لجمهوره أن معركته في الماضي كانت الانتصار على الرئيس نبيه برّي والنائب وليد جنبلاط وكشف تيار المستقبل في «الإبراء المستحيل»، وكيف تحوّل «الإبراء المستحيل» إلى تحالفٍ مصيري مع الحريري.
ليس هذا فحسب، بات فرنجية يركّز في لقاءاته على مستقبل المسيحيين في لبنان والمشرق، في ظلّ ما يراه خطاباً «هدّاماً». بالنسبة إليه، قوّة المسيحيين مستمدّة من المسلمين، والدليل قدّمه إليه باسيل نفسه، بعد أن خرج إلى العلن اللقاء الذي عقده الأخير مع الأمين العام لحزب الله السّيد حسن نصرالله. يخشى فرنجية أن يتحوّل شدّ العصب الطائفي إلى محرّك لتفتيت لبنان، يدفع ثمنه المسيحيون لاحقاً، وعليه، يقدّم الأخير خطاباً بديلاً: «على المسيحيين أن يجنحوا بالمسلمين اللبنانيين نحو الدولة المدنية والخطاب الوطني، ويستطيعون ذلك، وهذه هي الضمانة الوحيدة، أمّا العصبيات، فتعني هزيمة اللبنانيين جميعاً».
يدرك فرنجية أن تحويله إلى زعيم «زغرتاوي» ينهيه، وينهي معه خطاب المسيحية المشرقية. لكنّه في المقبل من الأيام، يطمح إلى أن يكون جزءاً من تحالف مسيحيّ «وطني»، وكتلة نيابية وازنة لا تنحصر في الشمال، على قاعدة تحالفات سياسية مع شخصيات في مختلف الأقضية، ويعدّ العدّة لذلك.