منذ بدء الحديث عن التشكيلات القضائية، لم يعرف القضاة استقراراً. القاضي المهدّد بنقله من مركزه مشوّش بما يحول دون إنجازه عمله، والقاضي الموعود بمركز لن يعمل ما دام سينتقل إلى مركز جديد، فيما «مسّيحة الجوخ» منشغلون بتقديم فروض الولاء إلى «أولياء الأمر» السياسيين، درءاً لأي «فيتو» لدى توزيع المقاعد.
ورغم أنّ آخر تشكيلات قضائية شاملة تعود الى عام ٢٠٠٩ (أُتبعت بتشكيلات أقل شمولاً عام ٢٠١٠، ومنذ ذلك الحين يُستعاض عنها بانتدابات)، إلا أنّ بدء الحديث عن التشكيلات القضائية منذ نحو شهرين شلّ العدلية تماماً. ورغم أنّ اجتماعات مجلس القضاء الأعلى بشأن التشكيلات بقيت معلّقة حتى تعيين القاضي بركان سعد رئيساً لهيئة التفتيش القضائي، إلا أنّ أيّ اسم لم يُدوَّن بعد في التشكيلات المرتقبة. ولدى سؤال أعضاء مجلس القضاء الأعلى عن المرحلة التي وصلت اليها التشكيلات، يكاد الجواب يكون موحّداً: «لا نزال نناقش المعايير»، ولكن من دون أي توضيح لماهية هذه المعايير: هل هي إنتاجية القاضي؟ وكيف تُقاس هذه الإنتاجية: بعدد الأحكام أم بنوعيتها؟ وهل تؤخذ نظافة الكفّ والسجل في التفتيش القضائي في الحسبان؟
هذه، وغيرها، أسئلة لا أجوبة شافية عنها بعد. غير أنّ العقدة الأساسية، بحسب المصادر، تتعلّق بالجو السياسي المحتقن في البلاد، والتوتر بين الرئيسين ميشال عون ونبيه بري، والمطالبات بالمناصفة في وظائف الدولة، كلها عوامل تنعكس شللاً في الجسم القضائي. وفي العدلية، «انقلبت الآية. ففيما جرت العادة أن يطالب «المسيحيون» بالمناصفة، يُطالب «المسلمون» بالمناصفة في قصور العدل».
مصادر في حركة أمل أكدت لـ«الأخبار» أنّ «الخلاف هو على المبدأ» مع التيار الوطني الحر، مشيرة إلى أنّه «لا تزاحم بين السنّة والشيعة، لكن المطلب الأساسي هو المناصفة بين المسلمين والمسيحيين في المراكز القضائية». ولفتت الى أن «المسيحيين يزيدون المسلمين بمركز في النيابات العامة في بيروت، وبغرفتين من غرف الاستئناف في جبل لبنان. وفي جبل لبنان هناك ستة محامين عامين موارنة (ضمناً النائب العام) في مقابل أربعة مسلمين فقط، والأمر نفسه ينطبق على المحكمة العسكرية حيث هناك أربعة قضاة مسيحيين في النيابة العامة مقابل قاضيين مسلمَين».
غير أن مصادر قضائية قالت لـ«الأخبار» إنّ هناك أيضاً «مطالبة شيعية» بتعديلات تضمن المساواة عددياً بمراكز السنّة. وترى المصادر إن كان المبدأ محاصصة، فيجب تعديل الخلل القائم للمحافظة على المناصفة بين المسلمين والمسيحيين، أو فلتُلغَ كليّاً وتُستبدل بأصحاب الكفاءات، من دون اعتبار لمذهب أو دين. وهذه المطالِب لا تقتصر على السياسيين. ففي أحد اجتماعات مجلس القضاء الاعلى قبل أسابيع، دخل أحد القضاة، متحدّثاً باسم قوى سياسية، ليطالب بالمناصفة في توزيع المراكز القضائية بين المسلمين والمسيحيين.
الثابت حتى اللحظة أن الأزمة لا صلة لها بالعمل العدلي. فالتشكيلات القضائية باتت كما باقي الملفات العالقة: تشكيلات قوى الامن الداخلي، والتشكيلات الدبلوماسية، وتطويع عناصر في الجمارك... كلها قضايا ستبقى معلّقة إلى ما بعد صدور قانون جديد للانتخابات النيابية، وربما، إلى ما بعد إجراء الانتخابات. فالعقدة ليست إدارية، بل سياسية، يختلط فيها الخلاف بين الرئيسين ميشال عون ونبيه بري على كل شيء تقريباً، بالمزايدات الطائفية، تحت عنوان «استعادة الحقوق» و«المناصفة». ورغم أنّ جميع الأطراف تؤكّد على استقلالية القضاء وعدم التدخّل في عمله، إلا أنّ أيّاً منها لا يقرن القول بالفعل. على العكس من ذلك، فإن الكثير من المراكز القضائية تشكل جزءاً من العدة الانتخابية للقوى والشخصيات السياسية. محامٍ عام واحد أو قاضي تحقيق يشكّل فارقاً كبيراً في علاقة البيت السياسي أو الحزب مع قاعدته الشعبية. وهنا مكمن الصراع حالياً.