ارتبطت علاقة آل جنبلاط وآل الحريري بسياق تاريخي دائم، جذره علاقة الموحّدين الدروز في لبنان برافعة «السنيّة السياسية» في المنطقة، التي تبلورت مع الراحل كمال جنبلاط والأمير شكيب أرسلان. وليس التراشق الإعلامي المستجدّ بين النائب وليد جنبلاط والرئيس سعد الحريري، سوى تعبير عن الـ«لا استقرار» الذي يضرب الإقليم، وينعكس اهتزازاً كبيراً في لبنان.
إلّا أن هذا التحوّل غير المكتمل بعد، لا يؤثّر على واقع التوازنات السياسيّة فحسب، بل على إعادة تكوين السلطة الحاصلة اليوم، مع وصول الرئيس ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية، بوصفه رئيساً «مسيحياً قويّاً» بالمعنى الحرفي للكلمة، ومدى تأثير ذلك على اتفاق الطائف.
ارتبط كمال جنبلاط ارتباطاً عميقاً بالمزاج القومي العربي الذي تصاعد مع وصول الرئيس المصري جمال عبد الناصر إلى السلطة بداية الخمسينيات. ولم يشتّ جنبلاط الأب، عن تشكيل الواجهة اللبنانية لـ«الثورة الفلسطينية» بالتماهي الكامل مع الرئيس الراحل ياسر عرفات. وحين وَرِث جنبلاط الابن 300 عام من تاريخ عائلته ودورها ثم اندلعت حرب الجبل، كان رفيق الحريري الذراع السعوديّة في الحرب اللبنانية، مفتتحاً عصر الدعم السعودي للميليشات اللبنانية بملايين الدولارات، للحزب التقدمي الاشتراكي. توطّدت العلاقة بين الحريري الأب وجنبلاط، وتعمّدت أكثر بالاتفاق الدولي والإقليمي على تسليم التفاهم السوري ــ السعودي زمام الأمر والنهي في اتفاق الطائف. وعلى هذا الأساس، شكّل جنبلاط جزءاً لا يتجزّأ من سلطة الطائف، كما الحريري.

التأزم في العلاقة
ليس سوى نتيجة لشعور جنبلاط باختلال التوازنات

إلّا أن «سوليدير» وثروة الحريري، كانت دائماً موضع ابتزاز إعلامي دائم من قِبَلِ جنبلاط. ابتزاز ينتهي مع أوّل «دفعة على الحساب». فمصطلح «حيتان المال» ليس جديداً على جنبلاط، وسبق أن استخدمه في النصف الثاني من التسعينيات. وحين قرّر الحريري الردّ بحزمٍ وحرمان جنبلاط من المجالس البلدية في إقليم الخرّوب في انتخابات 1998، استسلم جنبلاط للحريري بعد الهزيمة في «الحديقة الخلفية» للشوف، إلى أن تعمّد التحالف مجدّداً، بالعداء المشترك للرئيس إميل لحّود. رغم ذلك، بقي الابتزاز الإعلامي الجنبلاطي وارداً في أي لحظة، إلّا أن الحريري الأب، رجل الأعمال و«البزنس» الناجح، لم يقف يوماً عند الاعتبارات الشخصية، مبدياً تفهماً كبيراً لطبيعة جنبلاط، وضوابط اللعبة اللبنانية تحت سقف اتفاق الطائف. على عكس الحريري الإبن، الذي يُظهر حساسيةً تجاه الكرامة الشخصية و«تجريح» جنبلاط بقدر ما هو فاشل في «البزنس»، في لحظة تتحوّل فيها التوازنات السياسية، بين ماضٍ ولّى، وحاضر يُؤَسِّس للمستقبل.
على مدى السنوات الماضية، بعد اغتيال الحريري الأب، جمع خطاب 14 آذار جنبلاط والحريري في مركبٍ واحد، في علاقة شخصية متأزمة أحياناً، لكن مضبوطة، تحت سقف تحالف مفروض بالعداء لـ«دكتاتورية الأسد» والرّهان على سقوط سوريا وهزيمة حزب الله. والحقيقة، أن الثنائي كرّس انفصاماً أخلاقيّاً بتعيير الرئيس السوري بشار الأسد بـ«دكتاتوريته»، وهما وريثان سياسيّان، مع الفارق في الوراثة بينهما طبعاً، مثلما يكرّسان الآن انفصاماً أخلاقيّاً جديداً، بتعيير بعضهما البعض بالفساد! حتى أن الحريري اضطر للاعتراف قبل أيام بأنه مفلس، في رسالة ربّما... للسعودية.
وليس التأزم الحاصل في العلاقة بين الحريري وجنبلاط، منذ انعطافة الحريري نحو دعم عون لرئاسة الجمهورية، سوى شعور عميق لدى جنبلاط بالتحوّل التاريخي في الدور واختلال التوازنات التي رست في الطائف. وللأمانة، ليس جنبلاط وحده من يشعر بهذا «التهميش»، بل تعبّر «ثورة» جنبلاط عن شعورٍ عام لدى الدروز اللبنانيين، من المواطنين العاديين إلى القيادات السياسية مثل النائب طلال أرسلان والوزير السابق وئام وهّاب، وحتى النائب السابق فيصل الداوود، بتراجع مدى تأثير الدروز في التركيبة الجديدة. ويشبه شعور الدروز اليوم، ذلك الذي أصاب المسيحيين مع رسوخ اتفاق الطائف قبل ثلاثة عقود. ومن تابع تفاصيل «طبخة الرئاسة»، وما بعدها في تشكيل الحكومة ومن ثمّ النقاش حول قانون الانتخاب، يلمس أن الحريري اختار تحالفاً جديداً، مع عون، بدل جنبلاط، مانحاً «الدلال» للقوّة المسيحية المستجدّة، متخليّاً عن شراكة عمرها عقود مع جنبلاط، ومن خلفه الدّروز. والسؤال الأكثر عُمقاً، هو ما إذا كانت خطوات الحريري تعبّر عن تحوّلات في المصالح السّعودية التي كان الطائف قد ثبّتها، أم أن مصالح الحريري تغيّرت بما لا يمنع تعديل التوازنات التي قامت في اتفاق ما بعد الحرب؟ إذ أن جنبلاط، الذي اعترف علناً بحلفه الوحيد مع الرئيس نبيه برّي، يجد نفسه ملتصقاً بثنائي حركة أمل وحزب الله، كلّما اقترب الحريري أكثر من عون، في لحظة مفصليّة من تاريخ المنطقة، يعاد فيها تشكيل تحالفات الأكثريات... والأقليات.