في ٢٦ نيسان الماضي («الأخبار») دعتنا أليس، الحسناء الساحرة، الى نزهة في «بلاد العجائب»، فصادفنا في تجوالنا بإحدى الغابات وزير الخارجية جبران باسيل هائماً على وجهه يبحث عن مخرج من متاهة دخلها ولم يعرف الطريق للخروج منها، فتلتقيه هرة ذكية وتعرض عليه المساعدة قائلة: «هدّئ من روعك اذا كنت تريد حقاً الخروج من هذه المتاهة التي لها مخارج عدة، وكل واحد منها يأخذك في اتجاه. فقل لي الى أين تريد التوجُّه بعد الخروج، فأدلّك على المخرج المناسب».
حار الرجل في الجواب، وعندما نطق فهمت منه الهرة انه اقحم نفسه في مجموعة من المشاريع المتناقضة والتي وصف منتقدوه بعضها بأنه «وهمي»، لا بل اتهم انه يبيع اوهاماً للبنانيين، وللمسيحيين خصوصاً، مما اعتبر انحرافاً عن العقيدة التي آمن بها تياره، وقد أيقظت حركته هذه مجموعة من الوحوش المفترسة التي كانت نائمة، فانتفضت وأرعبت كل من في الغابة، حتى الغزلان والقطط التي «اختفى حسّها»، وتوارت عن الأنظار.
وفيما هو مستغرق في التأمل بـ«عجيبة» يمكن ان تخرجه من المتاهة، ظهرت أمامه أليس التي فوجئت بانه لا يزال حيّاً ولم تفترسه الذئاب، وقالت له: «أراك لا تزال ضائعاً، تبحث عن مخرج من هذه المتاهة فلا تجده، علما انك استهلكت معظم الوقت المتاح لك، كما لم توفّر فترة الشهر التي أوقف فيها الرئيس العماد ميشال عون مجلس النواب عن الانعقاد. وإني لآمل في ان تكون ادركت لماذا ضللت الطريق كل هذه الفترة فكان هذا جزاء انحرافك عن الخط الذي رسمه الرئيس العماد والقاضي باعتماد النظام النسبي في الانتخابات لأنه «الأكثر فاعلية»، فرحت تقفز مثل بهلوان من مشروع الى آخر، فيما شريك لك وحليف يجمع العلامات من المختارة وعين التينة وبيت الوسط لمشروع النسبية، ويبيع ويشتري «على عينك يا تاجر»، وانت عالق وسط متاهة في بلاد العجائب، وقد وجد هو المخرج المناسب من الغابة لانه كان يعرف سلفا الى أين سيتوجه بعد الخروج، وقد اعتلى صهوة جواد أسلس له القيادة، بينما انت لا تزال ممتطياً جواداً شرساً وعنيداً لا يتحمّل أصغر المهامز. وفي حين يسقط الفارس المدرّب الى الامام، اذا ما تعثًّر، فاني الاحظ انك تسقط الى الوراء، وهذا يعني انك في حاجة الى بعض التدريب على ركوب الخيل، وينقصك بعض الخبرة». «تدربت كثيرا، نعم تدربت كثيرا»، رد باسيل، فقالت له أليس: الفرسان لا يسقطون من ظهور الجياد، كما تفعل انت، ويحفظون توازنهم اذا ما أتقنوا حقا ركوب الخيل (من «أليس عبر المرآة»).
الآن ما العمل؟
والآن ماذا ستفعل، يا صديقي الفارس الشاب، بعدما سبقك حليفك وشريكك جورج عدوان بالخروج من المتاهة فيما انت لا تزال تأمل في ايجاد مخرج مما انت تتخبط فيه؟
بل ماذا فعلت، الى الآن، سوى الزعم انه تبنّى مشروعك للنسبية الذي ترددت كثيرا في إطلاقه ولو فعلت لكنت رائداً في تبني فكرة لبنان دائرة واحدة بدل الدوقيات التي طرحتها مشاريعك المختلفة والتي أوصلتك الى هذه المتاهة الغارقة في مستنقعات الطائفية والمذهبية. اذ لو انطلقت أساساً بالنسبية لكنت خطوت مسافة طويلة على طريق تحقيق التمثيل الصحيح لكل الجماعات اللبنانية صاحبة المصلحة في التغيير، بدل حصر اهتمامك بتصحيح التمثيل المسيحي. ومن المؤسف ان ما تطرحه تحت عنوان «الضوابط» ليس سوى مطبات وحواجز في طريق جواد النسبية المنطلق بقوة، ويلقى دعماً واسعاً من جميع الفئات. ولعل اخطر هذه المطبات مسألة نقل المقاعد وتجاهل إرادة المسيحيين في العيش معا والجماعات الاخرى، غير مهتم بغير المقاعد. اما أصحابها، اي الأقليات المسيحية في المناطق الاسلامية، فعليهم السلام؟
ان مثل هذه التفكير ينمّ عن نفسيات مريضة لا تزال تعيش في القرون الوسطى.
وهنا يحضرني سؤال: لماذا لا تجرون تبادلا سكانيا وتحولون البلد مجموعة منابذ ومعتقلات طائفية؟
واني لأنزّه التيار الوطني الحر عن مثل هذا التفكير، وأنصح بالتراجع عن مسألة نقل المقاعد، وكذلك عن الصوت التفضيلي الطائفي الذي يذكّرنا بالمشروع التأهيلي الذي سقط، علما ان الرد على «خطف» مشروع النسبية الذي قال الرئيس عون انه كان «اول من طرحه» فرُد عليه بـ«المختلط» على أساس «ان البعض أخذ حقوقا ومنعها عن الآخرين»، محذّرا من أطلق البعض عليهم لقب «باعة الاوهام للمسيحيين»... لا يعتقد احد انه بالنسبية سنستعيد كافة الحقوق ــ نقول ان الرد على «الخطف»، اذا كان هناك خطف حقاً، يتم بإعلان السير نحو تحرير إرادة اللبنانيين في اختيار ممثليهم، من طريق فتح «السجون» التي يُزج فيها يوم الانتخاب اكثر من نصف اللبنانيين الذين تقل أعمارهم عن ٢١ سنة والذين يشكلون قرابة ٤٨ في المئة من الشعب اللبناني، فضلا عن الذين يوضعون ذلك النهار في «الإقامة الجبرية» أمثال السجناء غير المحكومين، والعسكريين والأمنيين ونزلاء المستشفيات والمصحّات، فضلا عن المعوقين.
ان مثل هذا المشروع، لو مشى فيه التيار الوطني الحر، فانه سيكون اهم حدث سياسي منذ قيام دولة لبنان الكبير قبل مئة عام، وسيقال: هذان هما التغيير والإصلاح الحقيقيان.
وكان الانتداب الفرنسي قد أرسى في ١٠ آذار ١٩٢٢ اغرب نظام انتخابي في العالم مختزلا المواطنين الذين يحق لهم الانتخاب بما عرف بـ«الهيئة الناخبة» والتي مثّلت 15.30 في المئة من اللبنانيين آنذاك. ولا يزال هذا النظام الإقصائي والالغائي معمولا به في لبنان الى الآن، حيث ان الكتلة الناخبة لا تتجاوز ثلث عدد اللبنانيين.
ولعل اغرب دليل على هذه الهرطقة الديموقراطية ان مجلس النواب الذي أقر الاستقلال كان ناخبوه المسجلون على لوائح الشطب ٢٣٠٨٨٠ من أصل مليون نصف مليون هم عدد سكان البلد، انتخب منهم ١١٢٢٦٦ اي 48.5 في المئة من الكتلة الناخبة اي ما يوازي ٧ في المئة من مجموع اللبنانيين عام ١٩٤٣، علما ان المرأة استمرت ممنوعة من ممارسة حقها الانتخابي حتى عام ١٩٥٠ عندما اشترط نيلها شهادة السرتفيكا، لتتحرر منها عام ١٩٥٣.
ان الرد الأولي يكون بجعل سن الاقتراع ١٨ سنة وربما دون هذا العمر مقارنة بـ١٥ سنة في عهد المتصرفية.
وهل يعقل ان يلقى بأكثر من نصف اللبنانيين في «سلة النفايات السياسية»، بينما تتحكم بالكتلة الناخبة مجموعة من الاقطاعيين،على اختلافهم، وتجار الطائفية والأديان وحيتان المال واصحاب النفوذ الذين يعتبرون الدولة مغانم وأسلابا لهم؟
وتوقفت أليس اخيراً عند الحملة التي تعرّض لها الرئيس ميشال عون من الاعلام السعودي، والأوصاف التي ألصقت به ظلما مثل «رجل هش وماكر». وقد وصلت الوقاحة بهذا الاعلام الى حد وصفه بـ«أبرز السفاحين»!؟
وسألت باسيل: الا تعتقد ان هذه الحملة على الرئيس يجب ان تكون حافزا لتأمين التفاف شعبي حوله انطلاقا من تجاوز الخلافات بينه وبين الرئيس نبيه بري، بغية اظهار لبنان موحدا وراء رئيسه. وهذه لعمري فرصة ذهبية لإخراجك من المتاهة؟.
وهنا سألها باسيل: «ما العمل؟».
أجابت: سأهدي إليك جوادا أصيلا يعرف طريق بعبدا جيدا، وكذلك الطريق الى عين التينة، فاسرجه، وأنطلق لإبلاغ الرئيس ان مهمتك الانتخابية قد انتهت، وأنك في الطريق الى عين التينة، مربط خيول كثيرين، لكشح الغيوم السود التي تجمّعت في اجواء العلاقات بين الرئيسين، وبدء مرحلة جديدة من التفاهم والتضامن الضروريين في هذه الظروف الصعبة والدقيقة محليا واقليميا.
فهل من يصغي الى أليس فيوقف اللعب بالنار؟
* صحافي وباحث سياسي