ما برحت المادة 59 من الدستور تثير الإشكال وراء الإشكال، وقد أعلن رئيس مجلس النواب أن إقدام رئيس الجمهورية على تأجيل الدورة لشهر، لا يعني اختصار الدورة، بل فقط امتناع مجلس النواب عن الاجتماع خلال هذه الفترة، ومن ثم يحق للمجلس استعادة الشهر المؤجل وحتى لو أدى ذلك إلى انعقاده بعد انتهاء الدورة العادية الراهنة، أي في 31 أيار الحالي.
جراء ما تقدم لا بد من تأكيد الآتي:
أولاً لا بد لنا من الإصرار على ما جاء في مقالنا المنشور في «الأخبار» يوم الجمعة ١٤ نيسان ٢٠١٧، بأن التأجيل يحتاج إلى مرسوم، وقد أعلن صراحة ذلك العلامة إدمون رباط، عندما كتب متناولاً المادة 59: «وهي الصلاحية التي يمارسها رئيس الجمهورية باتخاذه مرسوماً بذلك» (الوسيط في القانون الدستوري اللبناني، دار العلم للملايين، بيروت، 1970، ص. 647). وقد كرر رئيس مجلس النواب في مؤتمره جميع النقاط التي ذكرناها في مقالنا، إن كان لجهة السوابق في فرنسا أو في لبنان قبل الاستقلال، أو لجهة استناده إلى الكتاب المرجعي للفقيه الفرنسي الشهير Eugene pierre.
بعد هذه الملاحظة المنهجية نلاحظ أن رئيس مجلس النواب استند في رأيه إلى التجربة الدستورية الفرنسية في ظل الجمهورية الثالثة وفقاً للسوابق التي أوردها Eugene Pierre في كتابه. وقد برر دولة الرئيس هذا الأمر من خلال القول إن الدستور اللبناني مأخوذ عن القوانين الدستورية للجمهورية الثالثة، وما ينطبق على فرنسا ينطبق قياساً على النظام اللبناني.
وبالفعل، نحن نوافق رئيس المجلس بما ذهب إليه لجهة اعتباره أن من مصادر الدستور اللبناني الذي أقرّ سنة 1926 القوانين الدستورية الثلاثة التي أرست الجمهورية الثالثة في فرنسا سنة 1875، علماً أنها ليست المصادر الوحيدة والحصرية. لكن هذا الواقع لا يعني بأي شكل من الأشكال أن كل ما حصل في فرنسا يمكن تكراره تلقائياً في لبنان، لكون القياس على الحالة الفرنسية لا يستقيم إلا إذا كنا في النظام القانوني نفسه، وفي ظل الأحكام الدستورية عينها. ومن خلال مراجعتنا للقانون الدستوري الفرنسي الصادر تاريخ 16 تموز 1875، نلاحظ أن الفقرة الثانية من المادة الأولى تنص صراحة على الآتي:
«Les deux chambres doivent être réunies en session cinq mois au moins chaque année».
ما يعني أن المجلسين (مجلس الشيوخ ومجلس النواب) يجب أن يجتمعا في دورة عادية لا تقل عن خمسة أشهر في السنة. فدستور الجمهورية الثالثة نص فقط على وجود دورة عادية واحدة تفتتح في الثلاثاء الثاني من شهر كانون الثاني، ولم يحدد متى يكون اختتامها، بل أشار فقط إلى أن تلك الدورة لا يجب أن تقل عن خمسة أشهر. وقد أشار Eugene Pierre إلى نقطة مهمة، فقال إن الفترة التي يقوم رئيس الجمهورية خلالها بتأجيل انعقاد المجلس لا تدخل في فترة الخمسة أشهر، وهذا أمر بديهي لكون السلطة التشريعية ملزمة بقوة النص الدستوري على الانعقاد خلال خمسة أشهر على الأقل:
«Les ajournements prononcés par le président de la république doivent être défalqués du temps pendant lequel la session est censée durée. Il faut, pour que le minimum de cinq mois exigé par la constitution soit atteint, que les chambres aient été durant cinq mois, sans interruption à partir du second mardi de janvier, libres de se réunir et de délibérer» (Eugène Pierre, Traité de droit politique, électoral et parlementaire, cinquième édition, Paris, p. 556).
وقد حصل أمر مشابه سنة 1898، إذ انتهت ولاية المجلس دون استكمال الأشهر الخمسة، فما كان من المجلس المنتخب الجديد إلا أن أكمل الدورة العادية دون حاجته إلى مرسوم دعوة. ونقطة الاختلاف الجوهرية مع لبنان تكمن في هذا النص تحديداً. فالدستور الفرنسي لا يحدد متى يجب اختتام الدورة العادية، بل فقط يفرض مهلة الخمسة أشهر على الأقل، وهو يمنح رئيس الجمهورية بعد تلك المهلة صلاحية اختتام العقد العادي عملاً بالفقرة الأولى من المادة الثانية من القانون الدستوري تاريخ 16 تموز 1875:
«Le Président de la République prononce la clôture de la session»
وهذا ما ذهب إليه Eugene pierre، فقال إنه يعود للسلطة التشريعية أن تستمر في ممارسة عملها بعد انصرام الأشهر الخمسة ما دام رئيس الجمهورية لم يتخذ مرسوماً باختتامها (1). وفي جسلة 30 تموز1899 طالب أحد النواب بالتصويت على قرار يناشد السلطة التنفيذية عدم إعلان اختتام الدورة العادية بسبب ظرف استثنائي كانت تمرّ به البلاد، وقد رفض رئيس المجلس هذا الطلب، مشيراً إلى أن ذلك ينطوي على محاذير دستورية، ما أدى إلى قيام النائب بسحب اقتراحه المذكور. وقد تكرر الأمر سنة 1901، فرفض المجلس مجدداً التصويت على توصية تطلب تأجيل اختتام الدورة، لكون ذلك يُعَدّ تعدياً على صلاحيات رئيس الجمهورية (2).
جراء ما تقدم، ولما كان الدستور اللبناني لا ينص على مهلة انعقاد كحد أدنى لمجلس النواب، بل هو يعلن في المادة 33 منه الآتي: «يجتمع المجلس في كل سنة في عقدين عاديين فالعقد الأول يبتدئ يوم الثلاثاء الذي يلي الخامس عشر من شهر آذار وتتوالى جلساته حتى نهاية شهر أيار والعقد الثاني يبتدئ يوم الثلاثاء الذي يلي الخامس عشر من شهر تشرين الأول (...) وتدوم مدة العقد إلى آخر السنة».
ولما كانت المادة 33 من الدستور تنص أيضاً على أن «افتتاح العقود العادية واختتامها يجريان حكماً في المواعيد المبيّنة في المادة الثانية والثلاثين»، أي أن اختتام العقد العادي في لبنان يتم حكماً ودون تدخل من رئيس الجمهورية كما كان الحال في فرنسا، وذلك لأن العقود العادية محددة بشكل دقيق في الدستور وفقاً لمواعيد إلزامية لا تقبل أي شكل من أشكال الاجتهاد.
وبما أن رئيس مجلس النواب دعا إلى جلسة تشريعية في الخامس من حزيران، أي بعد انتهاء العقد العادي الأول دون صدور مرسوم بفتح الدورة الاستثنائية، ولما كان رئيس المجلس قد اجتهد في تفسيره للدستور، لكن كما بات جلياً لنا أن اجتهاده لا يتوافق مع النصوص المعمول بها في لبنان، ولا سيما المادة 31 من الدستور التي تعلن بشكل حاسم أن «كل اجتماع يعقده المجلس في غير المواعيد القانونية يعد باطلاً حكماً ومخالفاً للقانون».
وبما أن المواعيد القانونية هي تلك المحددة حصراً في المادة 32 من الدستور والحالة الوحيدة التي يحق فيها للمجلس الاجتماع خارج الدورات العادية، ومن دون مرسوم بفتح عقد استثنائي هي تلك التي نصت عليها الفقرة الأخيرة من المادة 69 من الدستور عندما أعلنت «عند استقالة الحكومة أو اعتبارها مستقيلة يصبح مجلس النواب حكماً في دورة انعقاد استثنائية حتى تأليف حكومة جديدة ونيلها الثقة»، أي إن الدستور هو الذي يحدد الاستثناء المتعلق بانعقاد دورات المجلس، ولا يجوز التوسع في تفسير الاستثناء دون نص دستوري واضح وصريح.
لذلك لا يمكن قياس التجربة الفرنسية على الواقع الدستوري في لبنان، وبالتالي لا يحق لمجلس النواب بعد 31 أيار الاجتماع إلا بعد صدور مرسوم عن رئيس الجمهورية بفتح دورة استثنائية، علماً أن كاتب هذه السطور يرى أن التأجيل الذي حدث لدورة المجلس رغم الغاية السياسية المحقة التي وقفت خلفه لم يكن بمرسوم، ما يجعل كل الاجتهاد الذي استند إليه رئيس المجلس ــ لو سلمنا جدلاً أنه يقع في محله القانوني ــ غير ذي جدوى.

* أستاذ الأعمال التطبيقية للقانون الدستوري في الجامعة اليسوعية

(1) مثلاً إن دورة 1882 العادية لم يصدر مرسوم اختتامها إلا في التاسع من آب من السنة نفسها.
(2) «M. le président Deschanel a fait des réserves qui ont amené l’auteur a modifié son texte de manière à ce qu’il ne parut pas entreprendre sur les droits du président de la république» (Eugene Pierre, p. 552).