في الوقت الذي يتفاقم فيه احتمال دخول الدولة في أزمة دستورية عميقة، تشهد البلاد تحركات تحذّر وتندّد بالآثار الكارثية الواقعة على المستويين المعيشي والاقتصادي. ويعزو البعض تصاعد لهجة «الشارع» بجميع مكوناته إلى إرادة «خفية» لتعبئته، وبالتالي استخدامه كأداة ضغط وتهويل في المناورات والمزايدات السياسية حول مشاريع قوانين الانتخابات النيابية.
إنّما، وبمعزل عن التكهنات والتحليلات، هل من شك في أنّ معيشة اللبنانيين وأرزاقهم وشؤونهم الحياتية وصلت، أقلّ ما يقال، إلى الحضيض؟ وهل من شك في أنّ لجوء القوى السياسية الحاكمة، في ظّل عجزها وإخفاقها، إلى إلهاء قواعدها ومُواليها بخطابات تطغى عليها لهجة التقسيم والتهويل، بات السبيل الوحيد للتنصل من مسؤولياتها والتهرب من المحاسبة التي يُفترض أن تضمنها عملية انتخابية ديموقراطية؟
تُظهر بعض المحطات التي سبقت «أزمة الحكم» الحالية أنّ أي محاولة تقوم بها الطبقة السياسية لمعالجة قضية جوهرية تعني جميع اللبنانيات واللبنانيين مصيرها التعطيل والفشل. ومن شأن أي نظام انتخابي يفرز القوى نفسها ويعزّز الطائفية ومنطق توزيع الحصص ويمنع التداول الفعلي للسلطة أن يجدّد الأزمات نفسها. وأبرز دليل على ذلك، مقاربة البرلمان الحالي لمسألة الموازنة العامة، وهي مقاربة حوّلت أموال الخزينة العامة إلى مال سايب، كما نقول بالعامية، أي المال المهمل والذي يتيح المجال لسرقته، أي الفساد، وتبذيره في غير محلّه، أي الهدر، حين يكون موجوداً دون حراسة، أي غياب الرقابة البرلمانية على مالية الإدارة العامة.
استهلّ البرلمان الحالي ولايته في عام 2009 وكانت الموازنات العامة منذ عام 2005 لا تزال «معلّقة»، وحسابات الإدارة المالية النهائية منذ عام 1993 غير منجزة وفق الأصول. وحتى تاريخ اليوم، منح هذا الأخير الثقة لأربع حكومات التزمت في بياناتها بالتقدم بمشاريع الموازنات للأعوام السابقة والراهنة وإنجاز حساب السنوات التي لم يقطع حسابها، وكان مجلس الوزراء قد أحال مشاريع موازنات الأعوام 2006 و2007 و2008 و2009 إلى المجلس النيابي، إلا أنها لم تناقش في الهيئة العامة. أما مشروع موازنة عام 2010، فقد نوقش في مجلس النواب، لكن من دون إقراره بسبب «اكتشاف» المجلس أن الحسابات غير منجزة. بعدها، لم تعمد الحكومة حتى إلى إرسال مشاريع الموازنة إلى المجلس عن الأعوام 2011 و2013 و2014 و2015؛ باستثناء مشروع موازنة عام 2012 الذي لم يناقش. والحال نفسها مع الحكومة ما قبل الأخيرة، إذ لم تبادر إلى إرسال أي مشروع موازنة للأعوام السابقة ولا لعامي 2016 و2017.
تغيّرت اللهجة في مطلع عام 2017 حيث بدا لوهلة أنّ هناك إرادة سياسية جدّية لمعالجة هذا الملف، إنّما لم تطل هذه اللحظة. فبعد البازار الذي عمّ الهيئة العامة خلال مناقشة سلسلة الرتب والرواتب في آذار الماضي، تلتها إشكالية الزيادات الضريبية، بات مشروع الموازنة ككرة الـ»بينغ بونغ» يتراشقها المجلس والحكومة في ما بينهما، إلى أن تمّ تعليق مسار مناقشتها من جديد نتيجة تأزّم ملف الانتخابات النيابية واحتمال المضي بالتمديد لمرّة ثالثة... أو الذهاب إلى المجهول والفراغ.
مضت ثماني سنوات على ولاية البرلمان الحالي، ولا تزال الحكومات المتعاقبة تعتمد قاعدة الموازنات الاثني عشرية. بمعنى آخر، لا تزال الدولة في عام 2017 ترصد الاعتمادات وتحدد النفقات وتجبي الواردات كما كانت عليه الحال في عام 2005، ضاربةً عرض الحائط بمبدأي توازن وسنوية الموازنة. كما خالفت مبادئ شمولية وشيوع ووحدة الموازنة، حيث أغفلت إدراج مجمل الإنفاق العام في مشاريع الموازنات التي أعدّتها، متذرعة بحجج منها أن الإنفاق الممول من قروض خارجية ومن بعض الهبات يُستثنى من الموازنة. علاوة على ذلك، استساغت هذه الأخيرة الإنفاق من دون ترخيص برلماني، أي خارج الاعتمادات المرصودة ومن دون صدور قوانين تشرّع لها ذلك؛ واستسهلت إعطاء السلف بطرقٍ عشوائية ومن دون دراسة آثارها على الخزينة العامة.
بموازاة ذلك، اعترت العملية التشريعية فوضى الاعتمادات الاستثنائية التي أقرّها البرلمان تحت صيغة المعجّل المكرّر، أي مرّت بـ»خطّ عسكري» إلى الهيئة العامة من دون إحالتها ودراستها في اللجان النيابية المختصّة. وقد افتتح عام 2010 بإقرار القانون الرقم 123 تاريخ 23/7/2010 القاضي بفتح اعتماد في موازنة مجلس النواب والذي جاء بصيغة اقتراح معجّل مكرّر، وبُرّر الاستعجال بضرورة ترميم مبنى المجلس. كما سجّل عام 2011 إقرار قانونين يقضيان بفتح اعتماد في الموازنة العامة لعام 2011، الأول هدفه معالجة أزمة السجون، أما الثاني فهدفه استكمال عملية ترميم مبنى المجلس النيابي. وفي عام 2012، أحالت الحكومة مشروع قانون يقضي بفتح اعتماد إضافي يضاف إلى أرقام الموازنة العامة والموازنات الملحقة لعام 2005 لتغطية إنفاق عام 2012. واللافت أن إقرار القانون جاء ثمرة «توافق» بين رئيس المجلس نبيه برّي والنائب فؤاد السنيورة نتيجة «اجتماع» حصل بينهما خارج الهيئة العامة ومن دون مشاركة النواب. وفي الاتجاه نفسه، سجّل عام 2014 إقرار قانونين في هذا الخصوص، الأول يقضي بفتح اعتماد إضافي في الموازنة العامة لتغطية العجز في الرواتب والأجور وملحقاتها لغاية نهاية عام 2014، والثاني يتعلق بفتح اعتماد إضافي في الموازنة العامة لتغطية النفقات الملحة للإدارات والمؤسسات العامة خلال العام نفسه. وبالرغم من إقرار النواب بأن الطريقة المتبعة هي مخالفة للدستور ولمبادئ المحاسبة العمومية، فضلاً عن تكرار وزراء المالية المتعاقبين الحديث عن مشاريع «حاضرة» ستُحال «في أقرب وقت» إلى الهيئة العامة، وبالرغم أيضاً من إثارة العديد من الأسئلة حول قيمة المبالغ المالية التي تُرصد في الاعتمادات وأهداف وكيفية صرفها، سار المجلس في النهج نفسه.
ارتُكبت ولا تزال جميع هذه المخالفات الدستورية الفاضحة، في ظلّ تغاضي البرلمان التام عن أداء دوره الرقابي حيث لم تُسجّل مساءلة جدية وفعلية من قبل نواب أو كتل نيابية خلال جلسات الرقابة اليتيمة التي عقدتها الهيئة العامة، بالرغم من التحذيرات والهواجس التي يثيرها النواب أنفسهم حول جسامة عجز الخزينة العامة والفساد والهدر اللذين يتفاقمان. كل ذلك في حين تسعى الأنظمة البرلمانية حول العالم إلى تطوير آليات الرقابة الاقتصادية والمالية نظراً إلى توسع نطاق تدخل الدولة الحديثة في مختلف المجالات والقطاعات، وبالتالي وجوب نمو دور البرلمان في مراقبة أعمال الحكومة ونشاطاتها، وتحويل الموازنة من عملية حسابية تقنية بحتة إلى سياسات اقتصادية اجتماعية تصون حقوق المواطن/ة ومصالحه/ا.
* محامية وباحثة مشاركة
في المركز اللبناني للدراسات