حتى عام 2000، لم تنفذ إسرائيل أي انسحاب من أراضٍ احتلتها إلا وفقاً لمقايضات رابحة، حتى عندما اضطرت إلى فعل ذلك تحت ضغوط دولية إستثنائية كما حصل عام 1956 في أعقاب عملية «قاديش» (العدوان الثلاثي).
آنذاك، وبفعل التهديد السوفياتي الذي استدعى «أمراً» أميركيا بالإنسحاب من سيناء، ربحت إسرائيل تحويل شبه الجزيرة المصرية إلى منطقة منزوعة السلاح تنتشر فيها قوات طوارئ تابعة للأمم المتحدة، كما تمكنت من انتزاع ضمانات دولية بفتح خليج العقبة الأردني ومضائق تيران أمام ملاحتها البحرية من دون أية معوقات. قبل ذلك، وفي أعقاب ما تسمّيه إسرائيل «حرب التحرير»، عام 1948، (ويسميه العرب «النكبة») توقفت الحرب عند خطوط انتشار ميداني كانت إسرائيل سيطرت فيها على أكثر من 50 في المئة من الأراضي المخصصة للدولة الفلسطينية بحسب قرار التقسيم 181 الصادر عن الأمم المتحدة. وفي اتفاقيات الهدنة التي وُقعت تباعاً مع كل من لبنان والأردن ومصر وسوريا، بين شباط وتموز 1949، جرى تكريس السيطرة الإسرائيلية للأراضي التي احتلتها مع بعض التعديلات التكتيكية التي كان من شأنها تحسين طبيعة الإنتشار العسكري على خطوط الدفاع، بما في ذلك تحديد ما عرف لاحقاً بـ«الخط الأخضر». أما ما احتلته إسرائيل في حرب عام 1967 فقد بقي تحت سيطرتها المباشرة حتى حرب عام 1973، وفي أعقاب الحرب إياها، «تنازلت» تل أبيب عن الجزء الأكبر من تلك الأراضي، المتمثل بشبه جزيرة سيناء، على إثر توقيع معاهدة السلام مع أكبر الدول العربية، مخرجةً مصر بذلك من دائرة العداء لإسرائيل، مع الإبقاء على سيناء منطقة شبه منزوعة السلاح، في ضوء القيود التي فرضتها المعاهدة على الوجود العسكري المصري فيها. وفيما بقي الجولان تحت الإحتلال ربطاً برفضٍ سوريٍ لتحقيق طموحات إسرائيلية مائية وجغرافية وسياسية، جاء الإنسحاب من بعض قطاع غزة والضفة الغربية في منتصف التسعينات مبنياً على اعتراف فلسطيني بإسرائيل وتوقيع جملة اتفاقيات جوّفت القضية الفلسطينية من مضمونها. حتى الإنسحاب الإسرائيلي من الأراضي التي احتُلت في «عملية ليطاني» عام 1978 جنوب لبنان، بُنِيَ على ترتيبات ميدانية تمثلت بانتشار قوات اليونيفل في الجنوب وتأسيس جيب أمنيٍ موالٍ لإسرائيل في المنطقة تحت سيطرة «جيش لبنان الحر» بزعامة العميل سعد حداد.

النجاح العسكري
في احتلال أرض لم
يعد مجدياً في
تحقيق الأهداف الإستراتيجية لأية حرب


القطع الأول مع هذا المسار التاريخي المتراكم من التثمير الميداني والسياسي للإنسحابات الإسرائيلية كان في لبنان، بداية في الإنسحاب الجزئي عام 1985، ومن ثم في الإنسحاب الكامل عام 2000. هنا، خبرت إسرائيل خطأ حساباتها على المستويين: التكتيكي والإستراتيجي. فـ«عملية سلامة الجليل»، التي بدأت في حزيران 1982 (قبل أن يُطلق عليها لاحقاً الإسم الرسمي: حرب لبنان الأولى) انفتحت على حرب استنزاف استمرت 18 عاماً لم يعرف فيها جنود الإحتلال الإسرائيلي لحظة واحدة من الهدوء أو الأمن، من دون أن تحقق سلامةً للجليل ومستوطنيه. كما أن الحرب لم تحقق لإسرائيل طموحها السياسي الإستراتيجي في استتباع لبنان من خلال توقيع معاهدة سلام معه، كما خطط أرييل شارون. وأمام العبثية النازفة التي عايشتها إسرائيل بشكل يومي في احتلالها لجنوب لبنان تبلورت لدى قسم مهم من قيادتها القناعة المبكرة بضرورة الإنسحاب، بدءًا من إسحاق رابين، فشمعون بيريس وبنيامين نتنياهو وصولاً إلى إيهود باراك. لكن تل أبيب، على عادتها، سعت طوال سنوات إلى ربط هذا الإنسحاب بترتيبات سياسية وأمنية تضمنها سوريا، الأمر الذي رفضته الأخيرة، فتعثرت الخطط الإسرائيلية سنوات، إلى أن نضجت فكرة الإنسحاب الأحادي بوصفه الخيار الوحيد الذي يوقف النزف.
ويمكن المرء الوقوف عند جملة من الأبعاد المائزة التي أضافت إلى الإنسحاب الإسرائيلي معاني عملانية وسياسية. فهو وليد مبادرة إسرائيلية أحادية نضّجها الضغط الميداني والخسائر المتراكمة، وهو حصل من دون أي ثمن أو مقابل أو تنسيق، كما أنه ترافق مع حرصٍ إسرائيلي على تحصيل المشروعية الدولية لتثبيت خط الإنسحاب من خلال الإشراف الدولي على ترسيم الخط الأزرق. ولا يقل أهمية عما سبق أنه لم يُنفَّذ وفقاً للخطط التي اشتغل الجيش الإسرائيلي على إعدادها قبل أشهر، وهي خطط جهدت إلى جعل الإنسحاب يبدو منظماً وخاضعاً لإيقاعٍ إجرائي يوفره امتلاك إسرائيل لزمام المبادرة. وكان من شأن إنسحاب كهذا، كما حصل لاحقاً في قطاع غزة عام 2005، أن يُظهر إسرائيل على الساحتين الدوليتين، الدبلوماسية والإعلامية، وكذلك أمام العالم العربي، وكأنها تنفذ قراراً استراتيجياً يحقق مصالحها السياسية والأمنية، لا كمن تفرّ مهزومة بلَيلٍ، تجرُّ وراءها ذيول الخيبة والمهانة والذل، كما تحقق فعلاً في أيار 2000.
بيد أن الأهم في أبعاد الإنسحاب الإسرائيلي من لبنان تبقى العبرة التي استوعبتها إسرائيل جيداً من دون أن تصرح بها، وهي الخلاصة التي تقول إن النجاح العسكري في احتلال أرض لم يعد مجدياً في تحقيق الأهداف الإستراتيجية لأية حرب، حتى في حدها الأدنى. هذه العبرة هي نفسها التي أدركها الأميركيون لاحقاً في أفغانستان والعراق: إن الحرب التي تلي الحرب أكثر صعوبةً ودمويةً وكلفةً من فعل الإحتلال، وهي أثقل عبئاً من أن تقدر دولة، حتى لو كانت عظمى، على تحملها. الهجوم العسكري الناجح هو شيء، والسيطرة على الأرض لفترة مطولة هي شيء آخر. وليس ذلك فقط لأن القوات المحتلة تتحول إلى أهدافٍ مباشرة ومريحة لحرب عصابات استنزافية، بل أيضاً، بحسب أحد المعلقين الإسرائيليين، «لأن احتلال الأرض من شأنه أن يحرر من القمقم الكثير من الشياطين التي لم يلتفت المحتل قبل الحرب إلى وجودها ومخاطرها: حزب الله في لبنان، طالبان في أفغانستان، المقاومة في العراق».
هذا الأمر يقترب من أن يكون تحولاً غير معلنٍ في العقيدة الأمنية الإسرائيلية: ليس مسموحاً العودة إلى احتلال أرض والإحتفاظ بها لوقتٍ يتيح للقوات المحلية الإستعداد للمقاومة. هذا التحول، المتمثل بالإرتداع عن الإحتلال (أو حتى عن مجرد المناورة البرية)، هو بالضبط ما شهدناه في حروب غزة الثلاثة الأخيرة، وقبلها في حرب تموز 2006؛ بل يمكن القول إنه أحد المرتكزات الذهنية التي قامت عليها «عقيدة الضاحية» في وقت لاحق: بدل محاولة القضاء على مشكلة الصواريخ من خلال احتلال الأرض، ينبغي احتلال وعي العدو من خلال إحداث تدمير منفلت العقال يكون كفيلاً بردعه عن إطلاق الصواريخ.
«حرب لبنان الأولى» كانت الحرب الأخيرة التي احتل فيها الجيش الإسرائيلي أرضاً قررت حكومته الإحتفاظ بها لـ18 عاماً قبل أن تقتنع بعبثية قرارها هذا وعدم قدرتها على استثماره سياسياً. يتضح اليوم، أن قرار الإنسحاب الذي أريد له أن ينهي هذه العبثية المكلفة، كان بدايةً فصل جديدٍ طُوي فيه عصر الإحتلالات.