منذ أن أصبح صاحب الحصة الكبرى في «الحزب الحاكم» للدولة، بات على التيار الوطني الحر أن يكون أكثر انفتاحاً على الأسئلة. نشوة الانتصار بوصول الجنرال ميشال عون إلى قصر بعبدا، لا ينبغي لها تكون سبباً للسُّكر، ولا مدعاة للتسلط، بل دافعاً للانفتاح وتقبّل النقد، ولو كان قاسياً. ليس الهدف هنا التنظير على التيار، ولا تلقينه ما يجب فعله، ولا ادعاء «معرفة مصلحته» أكثر منه.
لكن، ثمة حقوق للبنانيين، صار التيار أحد أبرز المؤتمنين عليها. وهذه الحقوق تتكرّس أكثر، وتتضخّم «الأمانة»، إذا كان السائلون ممن آمنوا منذ سنوات بأنّ التيار هو القوة الوحيدة القادرة على إدخال بعض الإصلاحات على النظام، وجعله أقل وحشية، وتحسين شروط العيش في البلاد، وتحولها إلى مكان قابل للبقاء فيه. لا بد من هذه المقدمة، في ظل التوتر الذي يظهر في خطابات المسؤولين العونيين، وعلى رأسهم وزير الخارجية جبران باسيل، بصورة توحي وكأن العهد بات في سنته الأخيرة. وبصرف النظر عما إذا كان التوتر هنا مبرّراً أو لا، فإن التيار ملزم بالإجابة عن الأسئلة «المفتاحية»، المتصلة بأدائه السياسي العام، وخاصة في ملفي قانون الانتخابات والكهرباء.
قد يكون التيار قادراً على إقناع جمهوره الحزبي بخياراته. كما أن الخطاب الشعبوي بشأن «حقوق المسيحيين» قد يرفع أسهمه قليلاً في بعض الأماكن (رغم أن هذا الخطاب أثبت فشله في انتخابات عام 2009، يوم رفعه التيار ترويجاً لكارثة قانون الدوحة). وعلى الأرجح أن القيادة الحزبية ليست محرجة إلى حد الاضطرار إلى تبرير الكثير من خطواتها. لكن ثمة جمهوراً غير حزبي، لا ينظر إلى الحالة العونية إلا بصفتها حركة إصلاح. وهذا الجمهور لا «يبصم بالعشرة»، ويحتاج تأييده إلى صيانة دائمة. ولا بأس هنا من بعض التواضع، لمخاطبته، والإجابة عن أسئلته الكثيرة، ومنها:
لماذا اكتشف التيار فجأة أن النسبية تشكّل خطراً على المسيحيين وتمثيلهم؟
كيف يمكن تجاوز عشرات التصريحات والخطابات التي صدرت عن مسؤولين في التيار، تمتدح النسبية، وترى فيها النظام الأفضل لتأمين حُسن التمثيل؟
لماذا قرر التيار، فجأة، شيطنة النسبية، عبر المطالبة بـ«ضوابط» لها، بما يوحي وكأنها جموح ينبغي ترويضه؟
قبل نحو 4 سنوات، وصل الأمر بقائد التيار، الجنرال ميشال عون، إلى حد العمل على إقناع أعضاء تكتل التغيير والإصلاح بأن النسبية في لبنان دائرة واحدة تؤمّن للمسيحيين 64 نائباً يمثّلونهم حقاً، ربطاً بالتحالفات التي تعقدها قواهم السياسية مع القوى النافذة بين الشيعة والسنّة.
يمكن تفهّم تراجع التيار عن المطالبة بالنسبية في لبنان دائرة واحدة. وبمقدور التيار تناسي عشرات المواقف التي أيّد فيها النسبية، «بلا ضوابط» ولا تأهيل. لكن كيف يمكن تبرير التراجع عن عهود ومواثيق التزمها التيار، سواء في اتفاق بكركي مع القوات والكتائب والمردة (النسبية في 15 دائرة)، أو في حكومة الرئيس نجيب ميقاتي (النسبية في 13 دائرة)؟
منذ بدء معركة الانتخابات الرئاسية الأخيرة، تعامل التيار مع وصول الجنرال عون إلى بعبدا كما لو أنه اللبنة الأولى لـ«استعادة حقوق المسيحيين». واستند في ذلك إلى حقيقة أن عون هو الممثل الأول للمسيحيين، بناءً على استطلاعات الرأي، وعلى نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة. وسبق للوزير جبران باسيل، في «خطاب النصر» في ساحة الشهداء يوم انتخاب عون أن وضع للفوز: ركيزتين، هما صمود عون وموقف حزب الله؛ و«عمودين»، هما التفهم المسيحي للأكثرية المسيحية (التفاهم مع القوات)، والتفهم الإسلامي للأكثرية المسيحية (التفاهم مع «المستقبل»). التفاهم مع حزب الله وباقي قوى 8 آذار أسهم في حصول التيار على كتلته النيابية الكبيرة. ولم يقف أحد لينتقص من الحجم التمثيلي لعون، بذريعة أنه «متفاهم مع شيعة وسنّة أو دروز».
على العكس من ذلك، أمّنت تلك التفاهمات قوة دفع للفوز في الانتخابات الرئاسية. فما الذي جرى حتى باتت «حِسبة» النتائج لأي مشروع قانون انتخاب تُبنى على فرضية متوهَّمة مفادها أن في البلاد كتلتين سياسيتين مقفلتين ستتصارعان: المسيحيون، والمسلمون؟ وما هو مبرر تكرار الحديث عن «انتخاب النواب المسيحيين بأصوات مسيحيين»؟ هل يعني ذلك أن النواب الذين فازوا بأصوات مسلمين ومسيحيين في الانتخابات الأخيرة مطعون في شرعيتهم (بين هؤلاء عدد لا بأس به من تكتل التغيير والإصلاح)؟
منذ عام 2005، كان التيار قطباً محورياً في الحياة السياسية. وفي تفاهماته وخلافاته، خلق مساحة واسعة للعمل السياسي، ومظلة ورافعة وعوناً للعديد من القوى المهددة بالتهميش والحصار. وكان من المنتظر أن يتسع صدره أكثر، ويصبح أفقه أكثر رحابة، بعد انتخاب عون رئيساً. لكن تجربة الأشهر القليلة لا توحي بذلك. فلماذا يضع التيار نفسه في موقع الساعي إلى خنق الحياة السياسية، تارة من خلال المطالبة بالتأهيل الطائفي، وطوراً عبر السعي إلى تطبيق الأرثوذوكسي الأكثري في دوائر هي أكبر من دوائر قانون الستين، وبمعارضة النسبية بعدما باتت أمراً واقعاً يرتضيه جميع رافضيها؟
في ملف الكهرباء أيضاً، يحتاج بعض المدافعين عن خطط التيار السابقة لإصلاح قطاع الكهرباء إلى إقناعهم بجدوى الخطة المعروضة حالياً لاستئجار بواخر لإنتاج الطاقة، وبمبررات كلفتها الباهظة. يمكن حصر القضية في الأسئلة الآتية: لماذا يُستَخدَم هذا المبلغ الهائل (1.7 مليار دولار) لاستئجار بواخر لخمس سنوات، فيما يمكن استعماله لإنشاء معامل تدوم لثلاثين عاماً، وتغطي العجز المتوقع في الأعوام العشرين المقبلة؟ هل مِن دافِعٍ لذلك غير استعجال تسجيل إنجاز في بداية العهد، وربما قبل الانتخابات النيابية المقبلة؟ ولماذا لا يشرح المسؤولون العونيون هذه القضية بهدوء، بعيداً عن ضغط القوى المنافِسة التي تتهمهم بالفساد؟ ومن أين سيتم تأمين الكلفة؟ هل ستُضاف إلى عجز الموازنة، أم أن هناك أبواباً غير معروفة للإيرادات؟
التيار مُطالَب اليوم، أكثر من أي وقت مضى، بالتصرف بمسؤولية، وبهدوء، بعيداً عن التخوين، واتهام كل من يسائله بالفساد. والمأمول منه أن يكون حكيماً. أحد الحرصاء على التيار، زعيماً ورئيساً وحالة سياسية، يقول إن الذكاء والاجتهاد لا يكفيان لنجاح الوزير جبران باسيل. ففي المرحلة الانتقالية بين الانطلاقة وبين تكريس الزعامة، أكثر ما يحتاجه السياسي هو الحكمة. ورأس الحكمة هنا، طمأنة الناس، اللبنانيين جميعاً، لا المسيحيين وحدهم، ولا جمهور التيار حصراً.