إنّ البحث العلميّ، في إطار نهج سياسيّ عام يهدف إلى تطوير المجتمع واقتصاده، هو حجر أساس في أيّ عمليّة تخطيط، تنفيذ أو حلّ، وتحقيقه شرط في نجاح أيّ مشروع، ذلك لأنّ القوانين العلميّة هي الّتي تحكم حياتنا بمجمل تفاصيلها، وفهمنا لها وتطوير معرفتنا فيها يجنّبنا الخطأ، الّذي يؤدّي غالباً إلى الفشل.
والفشل في حلّ المعضلات في لبنان، على أنواعها، هو السّمة الأكثر انتشاراً، لا بل تفاقماً، ومن هنا نستنتج، عبر منطق الرّبط ودون لغة الأرقام، كم أنّ البحوث العلميّة في لبنان ما زالت بدائيّة في أحسن الأحوال، والأهم أنّها لا تلبّي حاجات المجتمع والاقتصاد اللّبنانيّ، لذلك، لا بدّ من طرح بعض الأمثلة الّتي قد توضّح كيفيّة حلّ بعض المشكلات، وما أكثرها في وطننا العزيز.

أمثلة من الواقع

تفتك بنا أزمة النّفايات منذ تمّوز 2015، وكانت نتائجها كارثيّة على البلاد بكلّ ما تعنيه الكلمة من معنى، ولجأت السّلطة دائماً إلى حلول أقلّ ما يقال أنّها "جنونيّة"، كان آخرها "جريمة النّورس". لقد كان في جعبة الكيمياء والهندسة الصّناعيّة والإحصاءات حلول علميّة وجذريّة، أساسها الفرز الّذي يحتاج إلى دراسة أنواع النّفايات المنتجة في لبنان ونسبها وكيفيّة معالجتها، الّتي تتمّ على أسس كيميائيّة وفيزيائيّة (هنا ضرورة البحث والتّطوير في علوم المادّة وخصائصها). أمّا عن التّهويل المملّ الّذي أتخمنا به المسؤولون وأبواقهم عن صعوبة تنفيذ الفرز، فإن سلّمنا جدلاً بصحّته، فما كان ليكون معضلة لو تمّ وضع خطّة ممنهجة لتوضيح عمليّة الفرز المستندةً إلى إحصاءات الدّراسة الأساسيّة.

البحوث العلميّة في
لبنان ما زالت بدائيّة في
أحسن الأحوال


أما في الاقتصاد، يتكبّد لبنان يوميّاً خسائر فادحة نتيجة زحمة السّير اليوميّة على مداخل العاصمة، ناهيك طبعاً عن الضّغط النّفسيّ والتّوتّر النّاتجين عنها. أحد الحلول الأكثر عمليّة لمعالجة هذه المعضلة هو تطوير شبكات النّقل العامّ من باصات ومترو وسكك حديد، ولتحقيق هذا المشروع "الحلم"، لا بدّ من الدّراسات في التّنظيم المدنيّ والهندسة وفي مجال المعلوماتيّة والاتصّالات لتنظيم الشّبكات وتحسين خدماتها كما الإحصاءات المسؤولة عن تقدير حركة المواطنين وأوقات الذّروة لتنقّلاتهم.
وفي قطاعات منتجة كالزّراعة والصّناعة الغذائيّة، فلا يمكن أن تتقدّم دون الهندسة الزّراعيّة القادرة على معالجة المشاكل الّتي تفتك بالمزارعين أو المستهلك، كتحديد كمّيّات المبيدات وأنواعها، أو إنقاذ شجرة الصّنوبر المهدّدة بالانقراض في لبنان، أو معالجة أزمة الزّراعات الجبليّة النّاتجة عن العشوائيّة دون العودة إلى البحث والتّخطيط، فبعد تغيّر المناخ، مرّ لبنان لسنوات في شتاء "دافئ" دفع بمزارعي الجبل إلى الاستثمار في الفاكهة الاستوائيّة (كالأفوكادو) نظراً إلى إنتاجيّتها المرتفعة ومردودها المادّيّ المهمّ، ولكن للأسف وبسبب عدم استقرار المناخ، عاد الصّقيع إلى لبنان عام 2015 فأدّى إلى ضرب المواسم وتكليف المزارعين خسائر فادحة.
ولأزمة اللّجوء في ظلّ الحروب الّتي تعيشها منطقتنا حصّة من الحلول، فأساس مشكلة عدم استيعاب هذا اللّجوء هو سياسة الدّولة الاقتصاديّة الاجتماعيّة الّتي لم تنظّم وجود اللّاجئين ولم تبن اقتصاداً يستوعب طاقاتهم، وبدلاً من وضع دراسات في علم النّفس والاجتماع بهدف إطلاق مشاريع توعويّة لمعالجة التّطرّف والآفات الاجتماعيّة مثلاً، لجأت إلى الحلول الأمنيّة، أي بدل معالجة الأسباب، ذهبت لمعالجة النّتائج.

في أزمة المناهج

تتّفق معظم الكوادر التّربويّة والعلميّة على تخلّف مناهجنا أكان في المدارس أم في الجامعات، وبدلاً من العمل على تطويرها، قامت السّلطات المختصّة المتمثّلة بالمركز التّربويّ للبحوث والإنماء في عهد وزير التّربية السّابق الياس بو صعب بتعديلها عبر إلغاء الكثير من المحاور في مختلف المواد؛ على صعيد الفلسفة مثلاً، ألغيت معظم المحاور الّتي تساهم في تطوير الفكر النّقديّ، كما الّتي تعالج المسائل الاقتصاديّة، في التّربية الوطنيّة، ألغي كلّ ما له علاقة بالعمل التّطوّعيّ والجماعيّ، أمّا في الكيمياء، ألغيت محاور تعتبر جوهريّة في هذا العلم، كمحور "التّوازن التّفاعليّ"، وقس على هذا المنوال في باقي المواد.
في مناهج الجامعة اللّبنانيّة، الّتي تعاني من أزمات في الأساس، حصلت محاولات للتّعديل، لا سيّما في كلّيّة العلوم، وصفها أحد الأساتذة بـ "التّدميريّة"، وكان هدف هذا التّعديل كما قال المسؤولون عنه تقليص نسبة التّسرّب من الجامعة اللّبنانيّة إلى الجامعات الخاصّة.
في الحقيقة، ومع الإدراك الحتميّ بأنّ هذه التّعديلات بجوهرها لا تهدف إلّا لتدمير القطاع التّربويّ والرّسميّ وعلى رأسه الجامعة اللّبنانيّة، فإنّ الأزمة تكمن في وضع مناهج لا تتلاءم مع حاجات المجتمع ولا بالتّالي مع ضرورات تطوير النّموذج الاقتصاديّ أو حتّى تغييره، جلّ ما تفعله السّلطات في إطار السّياسة اللّيبراليّة الاستهلاكيّة هو استيراد مناهج غربيّة مبنيّة لتحقيق حاجات مجتمعات الغرب، لإسقاطها على طلّابنا ومجتمعنا الّذي تختلف حاجاته جذريّاً، في ظلّ نظام تبعيّ يسعى لتصدير شبابه إلى الدّول الأقطاب وعلى رأسهم الولايات المتّحدة، وهنا تتجلّى "لا علميّة" السّلطة والنّظام السّياسيّ، الّلذين بات من الضّروريّ تغييرهما، عبر بديل يسعى للبحث كأداة لتقدّم المجتمع والاقتصاد، فيفتح فرص عمل هائلة أمام الطّلّاب والباحثين والمهندسين بدلاً من تصديرهم إلى الخارج. هذا البديل لا يمكن أن يتحقّق إلّا بعلميّته، أكان في مشاريعه أم في خطابه، نحو تحسين لشروط العيش، تصليب للاقتصاد وإنتاجيّته، وتوزيع عادل للثّروة، هذا البديل بات ضرورة حتميّة، وقد بدأت ملامحه تلوح في الأفق.