«لقد قرفت يا سيّدي حديث الانتخابات... ستذكر صراحتي هذه وتحمدها عندما تنجلي غمرة المعركة، أمّا الآن فثق يا حضرة الأستاذ أنّي أتمنى لك النجاح، إنّما على غير يدي، لأنني ما زلت كما كنت». هذا ما كتبه الأديب مارون عبّود إلى عميد «الكتلة الوطنيّة» ريمون إدّه. كان ذلك عام 1951.
هل ثمّة مَن مدح الانتخابات، مِن بين اللبنانيين، في يوم مِن الأيّام؟ لم يُحبّ اللبناني هذه «اللعبة الديمقراطيّة» يوماً. كلّ موسم انتخابي، منذ البداية، كان يعني له احتمال حرب. نذير شؤم. جعجعة بلا طحين، وإن حصل، فشعير. طبعاً لا تفوتنا «حافة الهاوية». هذه بنت عم «ربع الساعة الأخير». هذا «الربع» الذي يستمر، غالباً، لسنوات طوال، لكنّه يظل «ربعاً». هذا «يُمدّد» له تلقائيّاً. لم يأخذ اللبناني مرّة الانتخابات، في ذاتها، على محمل الجدّ. لولا التعبئة الطائفيّة لما اقترع أحد. عندما تكون الطائفة «مُهدّدة». كيف تكون كذلك؟ لنأخذ مثالاً: قبل مدّة جال «رجال جنبلاط» ومعهم بعض المشايخ على القرى الدرزيّة (كما يُقال ويقولون). كانوا يحشدون لمهرجان المختارة حيث «البيعة» لتيمور. قالوا للناس عليكم الحضور لأن «الطائفة مُهدّدة». أحد الدروز سأل الوفد الجائل، مَن يُهدّد الطائفة؟ أجابوه: جبران باسيل. قال لهم: «هلق جبران باسيل بهدّد طائفة؟ معقول! بس بقى»! تبيّن أنّ هذا المُستهِجن، الساخر، ينتمي إلى «الحزب السوري القومي الاجتماعي». كان قبل أيّام يُخبر هذه الحادثة للمنتظرين معه في صالون عيادة أحد الأطباء. هكذا تكون الطائفة مُهدّدة. ولأجل هذا ينتخب اللبنانيّون. لم تكن الانتخابات يوماً إلا كابوساً دوريّاً. عندما تحصل، وتنتهي على خير، فالشارع يسخر مِنها، ويؤلّف حولها النكات، الشارع نفسه الذي شارك فيها. سخر مارون عبّود، قبل 67 عاماً، في مؤلّفه «مِن الجراب» كاتباً: «إذا قيل لك: إنّ ثمن «الصوت» بلغ الألف ليرة في انتخاب مختار فظن خيراً، وإذا سمعت أن واحداً طار من افريقيا إلى لبنان ليرجح كفّة الانتخاب، ليس إلا، فصدّق أيضاً، ولا تظن شرّاً لأن المختار لا معاش له. وهب أن عينه بصيرة فيد المسكين قصيرة. أمّا إذا قالوا لك: إنّ فلاناً يدفع عشرات الألوف من الليرات ليفوز بالنيابة ويخدم الشعب فلا تصدّق أبداً. وخير للناس أن يستنيبوا شيطاناً ولا يستنيبوا واحداً كهذا، والشعب الذي ينتخب رجلاً لأنه أنفق وبذل لهو شعب يفهم الوطنية كما يفهم الكوسا والباذنجان في سوق النوريّة». لم يعش عبّود ليشهد موت سوق النوريّة، وسائر الأسواق كما عرفها، والتي أصبحت اليوم «سوكس». المُهم، هذه هي الانتخابات في ذاكرتنا الشعبيّة. شيء يُفعَل كلّ أربع سنوات، أو، بمعنى أدقّ، يأتي موعده.
قبل أكثر مِن نصف قرن، كتب الشاعر «البلدي» عمر الزعني: «محسوبك أنا اسمي فلان، مِن أحسن عيلة بلبنان، طمعان بحب الإخوان، ومرشح نفسي نايب. أوّل بند مِن الأربعين، بخلي السما تشتي طحين، والأرض تنبع بنزين، بلا رسوم وضرايب، بس انتخبوني نايب. وبزرع قطن وبزرع صوف، بأرض المتن وأرض الشوف، ما بتصدّق؟ بكرا شوف وتفرّج عالعجايب، بسّ انتخبوني نايب». أمّا شوشو (حسن علاء الدين) فأسهم أيضاً في نقل «نبض الناس» تجاه الانتخابات والنوّاب عموماً. في مسرحيته «وصلت لـ99» (التي عُرضت قبل 45 عاماً) يأخذ شوشو دور عامل بناء شارك في تشييد مبنى مجلس النواب. رقم 99 هو عدد أعضاء المجلس الذي أصبح عليه مع قانون عام 1960 (كانوا قبل ذلك 66 نائباً). يقول فيها مؤدّياً: «أنا بالوج موالي وبالقفا معارض». هذا هو اللبناني تاريخيّاً. تلك ثقافة عدم نشر غسيل الجماعة علناً، مِن منطلق أنّ «الطائفة مهدّدة» وما شاكل، التي تحكم علاقة ناس هذه البلاد بالانتخابات. منذ ذلك الحين، أي منذ قرابة نصف قرن، وسياسة تخويف الناس مِن التغيير تعمل على أحسن وجه. ينقلها شوشو باختصار: «كل مين بفكّر بالتجديد وقع عراسو شك، ووقعنا معو».
منذ نشأة الكيان اللبناني، أو هذا «الشيء» المنتحل صفة دولة، والأدب الشعبي لا يكفّ عن بث إشارات اليأس منه. يُمكن القول إنّ اليأس ممّا لا يؤمل مِنه هو عين الأمل. هكذا يُمكن فهم سخرية الشاعر الزعني، التي تدور حول حدود «اللامعقول» وغضب يستحيل هزلاً، إذ يقول: «جدّدلو ولا تفزع، خليه قاعد ومربّع، بيضل أسلم من غيرو، وأضمن للعهد وأنفع. هوّي بأمنيتو ظفر، ومدامتو شبعت سَفر، والمحروس نال الوطر، وإخواتو شبعو بطر، ما عاد في منو خطر، ما عاد إلو ولا مطمع... جدّدلو ولا تفزع». خُلصِت.