قبل 92 عاماً، أصدر «المفوّض السامي الفرنسي» في سوريا ولبنان، موريس ساراي، واحداً مِن أغرب القرارات في سِجلّ بلاده. يومذاك، صدرت الصحف في بيروت، وفيها أنّ «الحاكم» (الفرنسي) لن يأخذ الاعتبار الطائفي بعد الآن في انتخاب المجلس التمثيلي اللبناني (الشكل الأول للمجلس النيابي ــــ قبل الاستقلال).
لم يكن قراراً حمّال أوجه. إنّه لا يحتمل التأويل. كان ساراي علمانيّ الهوى، لا يُحبّ سُلطة رجال الدين، فهو بكلّ بساطة لن يُلبّي دعوة البطريرك الماروني لحضور القدّاس السنوي في مقرّه. لم يغرِه الحضور حتّى وإن كان القدّاس يُقام «مِن أجل فرنسا». كانت البطريركيّة تتقبّل هذا، وإن على مضض، لكن أن يُقرّر ساراي المضي بانتخابات خارج القيد الطائفي، فالويل الويل! نحن نتحدّث عن مسيحيي لبنان، مِن جهة، والحاكم الفرنسي في لبنان، مِن جهة أخرى! أليست فرنسا «الأمّ الحنون»؟ ما الحكاية؟ في الواقع، لم يكن للدولة الفرنسيّة علاقة بهذا الأمر، أقلّه بحسب ما تظهره وثائق دبلوماسيّتها في تلك الحقبة. الحكاية عند ساراي نفسه. شكوه إلى «قيادته». لا أحد يَعلم ما الذي خطر في باله عندما أصدر قراره، وربّما هو نفسه لم يكن يَعلم طبيعة «الجحيم» الذي يزجّ نفسه فيه، ليجد بعدها رئيس حكومة بلاده، إدوارد هيريو، يُوبّخه ويطلب مِنه التراجع عن القرار. كان ساراي عنيداً. لم يمتثل بداية. عاند مدّة 3 أشهر تقريباً، وهو الآتي مِن المؤسسة العسكريّة، غير أنّه رضخ في النهاية. الطائفيّة في لبنان أقوى مِنه. أقوى مِن كلّ شيء. الظاهر أنّ الرجل تفاعل كثيراً مع كون تعيينه في منصبه جاء، تزامناً، مع وصول «التحالف اليساري» إلى السُلطة في فرنسا. يبدو أنّه عاش الدور أكثر مِن اللازم، هذا مع حُسن الظنّ طبعاً، لينتبه أخيراً أنّ بلاده لديها حسابات مختلفة. قال إنّه يُريد إصلاح البلاد. دعك مِن الشعارات أيّها المفوّض. سياسة الدولة العليا التي يُصبح هو معها مجرّد أداة. وبالفعل، طار ساراي بعد ذلك مِن منصبه، لهذا السبب وغيره، وبقيت الطائفيّة السياسيّة. محاباة الكهنة أهمّ مِنه، فضلاً عن رجال الإقطاع، طالما أن النفوذ يقوم على أحسن وجه.
حوادث تلك الأيام، الموجودة في أرشيف وزارة الخارجيّة الفرنسيّة، ينقلها الدكتور أنطوان حكيّم ضمن السلسلة التاريخيّة التي نشرها. المُهم، عندما اعترضت البطريركيّة على القرار، مع ما يُرافق هذا مِن مراسلات احتجاجيّة عادة، راح كثيرون آنذاك يُردّدون أنّ ساراي «ماسوني». هنا نكون قد دخلنا في فاصل فكاهي. يبدو أن هذه التُهمة البلهاء قديمة في بلادنا. حتّى الدكتور حكيّم، في وصفه للرجل، ينقل أنّ ساراي «كان صاحب شخصيّة عنصريّة وحاقدة، شخصيّة باغضة لكلّ ديانة وإكليروس، تابع للماسونيّة وجاهل كلّ الجهل خصوصيّات الشرق وأوضاعه». يا إلهي! كلّ هذا لأنّه أراد انتخابات نيابيّة بعيداً عن الطائفيّة! وتزداد وتيرة التهم «الخطيرة» جدّاً، فيُقال عنه: «لقد قرّر اعتماد العلمنة بغية كسر نفوذ الأكليروس، بإصدار مشروع قرار يُعدّل قانون الانتخاب، بحيث يفرض إلغاء توزيع المقاعد وفق التركيبة الطائفيّة بين أعضاء المجلس التمثيلي». يا له مِن شرير!
عندما أُبعد ساراي، وعُيّن مكانه المفوّض هنري دي جوفنيل (لا علاقة للنائب نبيل دي فريج هنا)، جرى تعيين لجنة لصياغة الدستور (الذي سيُعرف لاحقاً بدستور عام 1926). مِن مهام هذه اللجنة دراسة الأجوبة التي أدلى بها «الأعيان المختارون» مِن مختلف الطوائف الدينيّة. أحد الأسئلة التي كانت وُجهّت إلى هؤلاء: «هل يجب اعتماد الطائفيّة في توزيع مقاعد مجلس النواب؟». مِن أصل 132 أجاب 11 بالسلب. الأكثريّة الساحقة مع الطائفيّة. هنا تبرز أهميّة القرار المجنون الذي اتخذه ساراي. لم يكن الرجل ملاكاً. بكلّ الأحوال كان مُستَعمِراً. لكنّه ليس القضيّة هنا. إنّها في قراره ذاك، الذي يُشير، بمعنى ما، إلى أن المصائب لا تأتي دائماً مِن الخارج. الأزمة بنيويّة «مِن يوم يومها». الحديث عن «العفن» الداخلي ليس تفصيلاً. إنّها لعبة تكامليّة.
بنظرة إلى أجوبة «أعيان الطوائف» الذين أيّدوا الطائفيّة، نجد الآتي: «إنّ الشعب اللبناني مؤلّف مِن طوائف عدّة، كل واحدة منها لها معتقداتها الدينيّة، وعقليّتها وتراثها الخاصان بها. إن الغاء التمثيل الطائفي يزعزع التوازن ويعطي الأفضليّة إلى بعض الطوائف على حساب الطوائف الأخرى. وينتج عن هذا الخلل الغيرة والإحباط والغبن التي تولّد في بعض الاحيان اضطرابات دائمة». أها، حكاية «الإحباط» قديمة. هل يصعب أن ننسب هذا النصّ إلى وزير ما يعيش معنا اليوم؟ لا شيء تغيّر. هي هي. أمّا أطرف الإجابات الواردة، قبل نحو قرن، على المفوّض الفرنسي، فهي: «لا يزال الشعب اللبناني تحت تأثير الفكر الطائفي. لم يحن الوقت بعد لإزالة هذه الرواسب». لنركّز على عبارة «لم يحن الوقت بعد». أصبحت هذه العبارة جديرة بأن تضاف إلى النشيد اللبناني.
قبل 61 عاماً، طالب النائب إميل البستاني بإلغاء الطائفيّة السياسيّة، فخطب في مجلس النواب، قائلا: «نجد مَن يقول إنّ كيان اللبنانيين قائم على هذه السياسة الطائفيّة، فإن ذهبت هذه السياسة ذهب لبنان وزال. ولعمري إنّ الذين يقولون هذا القول ليسوا خليقين أن يكونوا لبنانيين، فالمستعمر لم يجرؤ على قول هذا». مات البستاني في ظروف غامضة.