من المتعارف عليه أن غاية قانون الانتخاب إنتاج السلطة السياسية. وفي تاريخ لبنان الحديث بعد الطائف وسوء تطبيقه، أظهرت قوانين الانتخاب التي اعتمدت منذ عام 1992 أن الغاية منها إنتاج نوع محدد من السلطة السياسية، هي التي تحكمت في مفاصل الحياة السياسية حتى عام 2005 .
تكمن المفارقة في أن الفرصة حانت للمسيحيين الذين كانوا خارج هذه السلطة، مع اتفاق الدوحة عام 2009، لإنتاج قانون انتخاب يصحّح التمثيل، بحسب خطب قادتهم آنذاك، ويعيدهم بقوة إلى الحياة السياسية. لكن القادة المسيحيين اختاروا في الدوحة قانوناً أسوأ من القوانين التي طبّقت خلال الوجود السوري، لأن مفاعيل قانون الستين، بحسب اعترافهم حالياً، صبّت في خانة القوى السياسية التي كانوا يشتكون منها ويتهمونها بأنها تحكمت في المقاعد المسيحية.
في عام 2017، يكاد السيناريو نفسه يتكرر. هناك طرف أساسي، أي القوى المسيحية، يقول إن الاوضاع تحتاج الى تصحيح، ما يفترض اعتماد قانون انتخاب جديد. لكن في المقابل هناك أطراف أساسيون أيضاً ارتضوا تغيير القانون المعمول به حالياً، لكن ليس بالضرورة بما يتناسب مع مصلحة المسيحيين الذين يريدون قانوناً جديداً كل أربعة أعوام (أو أكثر)، لأن لهذه القوى أيضاً حساباتها السياسية. وفي السياسة لا شيء مجاناً، وكل طرف يسعى الى تغليب مصلحته السياسية، وينفّذ أجندته الخاصة.
وما يحصل في الاسابيع الاخيرة، لا بل الاشهر الاخيرة، من دوران في الحلقة المفرغة، يعيد إحياء المخاوف مجدداً من أن يقع الاطراف المسيحيون تحت ضغط الحاجة الى تغيير قانون الانتخاب، فيختارون القانون الأسوأ.

اختار القادة المسيحيون في الدوحة قانوناً
أسوأ من قوانين أيام الوجود السوري


فالعهد يحتاج الى دفعة تعزز انطلاقته، بعد حالة الجمود التي يمر بها، إذ لا تغني التعيينات الأمنية التي أعطته بعض الاندفاعة، وملف النفط مع ما يدور حوله من تساؤلات، عن إنجاز استثنائي بحجم قانون الانتخاب. ولا يمكن له، وفق ذلك، أن ينتظر أكثر من خمسة أشهر، فيما كان معظم المعنيين يتحدثون عن مواعيد تنتهي قبل نهاية آذار. وفيما تتحكم المراوحة في مسار المناقشات، إذ لا يتحقق تقدم ما حتى يظهر في الافق ما يناقضه، تكبر الحاجة الى خرق سياسي أساسي، في إطار الوفاء بالوعود التي قطعها الرئيس ميشال عون على مدار سنتين ونصف سنة من الشغور الرئاسي، وفي مقدمها قانون الانتخاب.
وإذا كان القانون المختلط الذي تقدم به رئيس التيار الوطني الحر الوزير جبران باسيل لا يحظى بالإجماع حوله، لجملة أسباب باتت معروفة، فهذا لا يعني أن تعويم النسبية الكاملة سيكون الحل البديل الذي قد ترتضيه كل القوى السياسية، من دون أن تكون هناك أثمان في المقابل. وهذه الأثمان لن يدفعها سوى العهد والقوى المسيحية.
فمنذ عام 2005 حتى ما بعد اتفاق الدوحة، كان التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية يتصدران المشهد الانتخابي بالمطالبة بقانون جديد. ومراجعة بسيطة لمواقفهما مع حزب الكتائب وتيار المردة منذ ذلك الوقت، تظهر تبدلاً في المواقف تجاه أي قانون هو الأصلح عموماً، وخصوصاً للمسيحيين، من النسبية أو المختلط والأرثوذكسي الى الدائرة الفردية وحتى العودة الى الستين. اليوم، بعد انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، أضيف لاعب أساسي الى التيارات الاربعة، إذ أصبح العماد ميشال عون طرفاً أساسياً في مقاربة قانون الانتخاب، من موقعه الرئاسي لا بصفته زعيماً للتيار. لكن هنا تبرز دقة الكلام عن حلقة حساسة، تتعلق بدور رئيس الجمهورية وبالحدود المرسومة بينه وبين التيار الوطني، وهو الذي جاء الى بعبدا ممثلاً لهذا الفريق. فالتيار يقدم مرة تلو مرة قانوناً للانتخاب ويغلّب صيغاً على أخرى، فيما لا يزال العهد من دون أي رأي واضح وصريح في قانون الانتخاب. وكل الوعود بكلام قريب ومواقف واضحة من القانون، لم تتحقق بعد، وكلما طال الوقت ظهرت معطيات مقلقة أكثر، علماً بأن رئيس التيار لا ينفك يقول كل يوم موقفه من القانون وما يريده منه التيار كقوة مسيحية. وكذلك الأمر بالنسبة الى الداعين الى طرح قانون الانتخاب على طاولة مجلس الوزراء في صورة نهائية، لوضع الجميع أمام استحقاقاتهم، بدل الغرق في مناقشات مجلس النواب.
وإذا كانت النسبية الكاملة بحسب حسابات التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية، اللذين جددا أمس في معراب رفضهما لها، لا تصبّ في خدمة المسيحيين، بعدما تيقنّا بمراجعة حسابية عدم تحقيقها النسب التي كانا يطمحان اليها، فأين يقع دور رئيس الجمهورية؟ في الانحياز الى قانون نسبي تحت ضغط الوقت والحاجة الى الإقدام على خطوة نوعية تبثّ الروح في العهد، وتجعله يفي بوعده بتحقيق إنجازات سريعة، ولو كان ذلك لا يصبّ في مصلحة الأكثرية المسيحية، أم في تأييد واضح وصريح لما تريده هذه الأكثرية؟ علماً بأن حساسية موقف العهد تكمن في محاولته تحقيق إنجاز حقيقي، فيما هو بين خيارين، عدم صدور قانون انتخاب في وقت قريب، وتعذر إجراء الانتخابات في مواعيدها واللجوء الى التمديد، أو الموافقة على قانون بالتي هي أحسن، ولو كانت نتيجته أسوأ من نتائج الدوحة. وكلا الخيارين مرّ على العهد. لكن ضغط الوقت بات ثقيلاً، وكذلك تشبّث جميع الأفرقاء بمواقفهم، واتفاق التيار والقوات على التصعيد لمواجهة إقرار النسبية الكاملة، فكيف سيحسم العهد هذه الضبابية؟