يُعرّف المشترع اللبناني الموازنة بكونها صكّاً تشريعياً تقدّر فيه نفقات الدولة ووارداتها في خلال سنة مقبلة، ويجيز من خلاله المجلس النيابي للحكومة الإنفاق والجباية، على أن تُنظَّم هاتان العمليتان ضمن إطار الرقابة التي يمارسها ديوان المحاسبة من خلال التدقيق بالحسابات الماليّة والتصديق عليها والموافقة على قطع الحساب، إضافة إلى مساءلة السلطة التشريعيّة عن مدى تقيّد الحكومة بالاعتمادات، وإلّا تكُن الرقابة شكليّة، بحسب مدير إدارة المناقصات العامّة في التفتيش المركزي جان العلية.
أموال عموميّة مُنتهكة

في الواقع اللبناني، تحوّل الإنفاق والجباية على أساس القاعدة الاثني عشرية (يُعمل فيها لبضعة أشهر فقط عند تأخّر إقرار الموازنة) إلى قاعدة دائمة، ما جعل ماليّة الدولة متفلتة من أي قطع حساب لأكثر من 15 عاماً، فاستمرّت السلطة التنفيذيّة، طوال هذه الفترة، بالجباية والإنفاق من دون إجازة من السلطة التشريعيّة، ومن دون مطابقة الحسابات وقطعها في ديوان المحاسبة، علماً بأنَّ الحسابات الماليّة النهائيّة، المُصدَّق عليها من قبل ديوان المحاسبة، تُعبّر عن تقيّد الحكومة بالجباية والإنفاق، وهي شرط لمنح إبراء ذمّة وإجازة جديدة للحكومة لتنفق وتجبي الأموال العموميّة في خلال سنة جديدة.
يقول المدير العام الأسبق للمحاسبة العامّة في وزارة الماليّة تميم موسى إنَّ "آخر إبراء ذمّة حصلت عليه السلطة التنفيذيّة، أي آخر حساب مُعدّ ومصدّق حسب الأصول يعود إلى عام 1979. إذ صُرف النظر عن موجب إعداد الحسابات، عن الفترة الممتدة بين عامي 1980 و1990، بموجب المادة 2 من القانون رقم 408/1995، بحيث صُدّق على الحسابات العامّة وموازنة عام 1993 دون قطع حساب، مع الإشارة إلى أنه كان من المفترض تقديم حسابات موازنة عامَي 1991 و1992، مع موازنة عام 1993، إلّا أن وزارة الماليّة عمدت إلى التخلّص من بيانات هذه الحسابات، ولم تفِ بتعهّدها للبرلمان وديوان المحاسبة بإنجازها لاحقاً، معلنة فقدان المستندات عند نقلها من مبنى الوزارة القديم إلى المبنى المركزي.

العبء الفعلي
للنظام الضريبي يقع على أصحاب المداخيل المتوسطة
أمّا آخر قانون موازنة صدر في عام 2005، فقد تضمّن نصّاً (المادة 23) يرمي إلى إعفاء وزارة الماليّة من موجب إعداد هذه الحسابات وإعفاء ديوان المحاسبة من موجب النظر بها". ويستند موسى إلى القرار رقم 1 الصادر عن ديوان المحاسبة في عام 1997 حول مسألة تصفير الحسابات التي جرت في عام 1993، للإشارة إلى "عدم صحّة رصيد الصندوق، والرصيد الجاري لدى مصرف لبنان (بحيث لا يمكن أن يكونا صفراً) ورصيد حسابات سلفات الموازنة، ورصيد سلفات الخزينة ذات الطابع الخاصّ، وأرصدة الحسابات الأخرى خارج الموازنة، إضافة إلى اعتبار أن هناك مبلغاً بقيمة 357 مليون ليرة هو بمثابة فروق صندوق وأموال مُختلسة". ويشير تميم إلى أنَّ "حسابات 1993-2003 صدّق عليها المجلس النيابي بشرط تصحيح الجداول والبيانات وفقاً لإشارة ديوان المحاسبة عليها، فيما ردّ الديوان حسابات المهمّة المرتبطة بالفترة نفسها إلى وزارة الماليّة لتنظيمها. وبعد عام 2003 لم يوضع أي قطع حساب، وبعد عام 2000 لم يوضع أي حساب مهمّة". أي باختصار، لا توجد أي حسابات ماليّة نهائيّة صحيحة منذ عام 1980، أي منذ نحو 37 عاماً.

موازنة غسل ماء الوجه

إنَّ الهدف من قيام الدولة، إضافة إلى تنظيم العلاقات المجتمعيّة وتحقيق أمن المجتمع، هو تقديم الخدمات العامّة التي يصعب توفيرها من آليات المجتمع والسوق، عبر تكليف المواطنين والسكّان ضرائب لتوفير هذه الوظائف العامّة، التي قد تتوسّع وتشمل الخدمات الصحيّة والاجتماعيّة والتعليم، بحسب الأمين العام لـ "مواطنون ومواطنات في دولة" شربل نحّاس. إذاً "الضريبة هي عمل سياسي، تفرضه الدولة لإحداث تعديل في المؤثرات التي تتحكّم بالسلوك المجتمعي، من خلال الموازنة التي تستخدم فيها قدراتها الماديّة جباية وإنفاقاً". يشير نحّاس إلى أن "موازنة 2017 المطروحة لم تلحظ التحوّلات الطارئة على المجتمع اللبناني لتغيير النهج القائم، وأبرزها انفصال لبنان عن محيطه بحكم الأزمات، ووجود أكثر من مليون ونصف مليون نازح سوري، وارتفاع عدد السكّان بنسبة 20% مقابل انخفاض الإنتاجيّة ودخل الفرد بنسبة 16%، كما انخفاض سعر النفط إلى النصف، بحيث بقيت على حالها وخُصّصت النفقات لخدمة الدين العام، وتوفير الرواتب والمعاشات وتحويل الأموال إلى مؤسّسة كهرباء لبنان وتوفير نفقات العقود الجاريّة". ويضيف نحّاس: "وظيفة الدولة تقديم الخدمات العامّة، مقابل ترتيب ضرائب لقاء الحصول عليها، إلّا أنَّ المكلّف يدفع الضريبة دون الحصول على الخدمة المتوقّعة. إضافة إلى ذلك، تعدُّ الضرائب غير المباشرة أكثر من الضرائب المباشرة، وهي تتمثّل بالرسوم الجمركيّة، وفواتير الخليوي، والـTVA، بحيث تظهر على شاكلة غلاء أسعار، ما يعني أن مستوى الجباية عالٍ ولا يُختصر فقط بما تظهره الأرقام".

حكم «المصارف»

نجحت موازنة 2017 في نسف أي تصحيح مرتقب للنظام الضريبي اللبناني، يحقق عدالة اجتماعيّة مفقودة ويعيد توزيع الثروة. إذ يتّسم هذا النظام الضريبي بسمات واضحة، فهو يكافئ الريع والربح ويعاقب الإنتاج والعمل، يكافئ من يملك/الثري ويعاقب من لا يملك/الفقير، بحسب الزميل محمد زبيب. وتالياً إن "العبء الفعلي لهذا النظام الضريبي يقع على أصحاب المداخيل المتوسطة، فيما تتفلت الأرباح والريوع من أي ضريبة تذكر، وهو ما أسهم، بالتزامن مع تورّم الدين العام وانتفاخ القطاع المالي، في تركّز الثورة لدى قلّة من كبار المودعين والمصرفيين والمضاربين على أسعار العقارات وكبار المستوردين، إذ، بحسب تقرير الصندوق النقد الدولي الأخير فإن 0.1% من الحسابات الضخمة تحوي 20% من إجمالي الودائع".
تنقسم مصادر الربح الأساسيّة بين: 1- البيوعات العقاريّة، التي بلغت في عام 2016 نحو 11.5 مليار دولار أميركي (8.5 مليارات مسجّلة في الدوائر العقاريّة بحسب وزارة الماليّة، و3 مليارات غير مسجّلة بحسب التقديرات)، تشكّل الأرباح منها نحو 50-60%، أي بين 6 و7 مليارات دولار أميركي مُعفاة من أي ضريبة. علماً أنه بين عامَي 1993-2016 بلغت قيمة البيوعات العقاريّة المسجلة أكثر من 180 مليار دولار أميركي، حصّة الأرباح منها نحو 100 مليار دولار. 2- الفوائد التي بلغ صافي ما حققته المصارف نحو 3.5 مليارات دولار في عام 2015، لم تسدد عليها أي ضريبة بسبب إعفائها من ضريبة الفوائد. أشار زبيب إلى أنَّ تسليفات المصارف للحكومة والتوظيفات لدى مصرف لبنان بلغت نحو 109 مليارات دولار في عام 2015، بمعدّل فائدة بنسبة 6.8%، فحقّقت بنتيجتها إيرادات من المال العام بقيمة 7.5 مليارات دولار دون أي مخاطر أو كلفة تشغيليّة. وأخيراً هناك الأرباح الاستثنائيّة التي حقّقتها المصارف في عام 2016 نتيجة الهندسة الماليّة بقيمة 5.6 مليارات دولار التي يفترض فرض ضريبة استثنائيّة عليها، بمعدّل مرتفع جداً، إذ لا مبرر لأن تجني المصارف أي ربح من عمليات قام بها مصرف لبنان، خلافاً للقانون، لدعم أموالها الخاصة والملاءة وإطفاء الخسائر، وهي الأهداف المعلنة للهندسة المالية. 3- الاحتكارات التجاريّة البالغة، بحسب دراسة أعدّها البنك الدولي في عام 2006 (يتوقّع أن تكون حصيلتها نفسها لليوم)، نحو 16% من الناتج المحلي، أي نحو 8.5 مليارات دولار أميركي، التي تتهرّب من الضريبة بوسائل متاحة.
قدّم زبيب إحصاءات تبيّن كيفية تركز العبء الضريبي بجزئه الأكبر على أصحاب المداخيل المتوسطة بدلاً من المداخيل المرتفعة، مشيراً إلى أنَّ "إيرادات الدولة العامّة قدّرت في عام 2016 بنحو 9.9 مليارات دولار أميركي، 4.7 مليارات منها تتأتى من 3 مصادر ضريبيّة غير مباشرة، لها وقع سلبي فادح، وهي الـTVA ورسوم الاستهلاك الداخلي والجمارك والاتصالات، في المقابل، إنَّ مجمل الضرائب على الدخل والأرباح بلغ في عام 2016 نحو ملياري دولار فقط، 465 مليون دولار على الأجور، أي بنسبة 0.8% من الناتج المحلي و3.8% من حصة الأجور في الناتج، و1.5 مليار على الرأسمال والأرباح، أي بنسبة 2.8% من الناتج المحلي و4.5 من حصة الأرباح المقدّرة بالناتج. لكن حتى هذه الأرقام "مصابة بما يسمى الوهم الإحصائي في لبنان، لكونها توحي بأنَّ كلّ الأرباح خاضعة للضريبة"، وهو بحسب زبيب "أمر غير صحيح"، ويشير إلى أن ضريبة الفوائد غير التصاعديّة بلغت في عام 2016 نحو 543 مليون دولار، ما يعني أنَّ الضريبة الفعليّة المترتبة من الأرباح ورؤوس الأموال بلغت مليار دولار فقط، أي 1.8% من الناتج المحلي، وهو رقم لا يذكر. ويضاف إلى ذلك، ضريبة الأملاك المقدّرة بنحو 812 مليون دولار في عام 2016، تشكّل رسوم التسجيل نحو 80% منها (532 مليون) يتكبّدها المشتري وليس البائع، إذ إنَّ المضاربين وكبار الملّاك يتهربون من تسديد رسم التسجيل عبر تبادل العقارات كأسهم في شركات.

الدين العامّ: تحويل المال العام إلى ثروات خاصّة

إن عدم تضمين الموازنة أي تصحيح ضريبي يصيب مصادر الأرباح الأساسيّة، تلازم مع تغييب البحث بإدارة جديدة للدين العام، الذي تزامن ارتفاعه مع تركّز الثورة لدى كبار المودعين والمصرفيين. يشرح وزير المال الأسبق جورج قرم كيفيّة شطب قدرات الاقتصاد اللبناني لمصلحة هؤلاء. ويستند قرم إلى دراسة أعدّها عن معالجة الدين العام بين العامين 2004-2005 تظهر أنه "لولا خدمة الدين العام لكانت الموازنة بحالة فائض، بقيمة 933 مليار ليرة بين العامين 1993 و2011"، مشيراً إلى أنَّ "الدين العام بلغ حتى عام 1992 نحو 5700 مليار ليرة لبنانيّة، إلّا أنَّ المشكلة تفاقمت مع انهيار الليرة اللبنانيّة المصطنع قبل انتخابات عام 1992، من 800 ليرة إلى 2800 ليرة مقابل الدولار، رغم أن ميزان المدفوعات، الذي يحدّد سعر الصرف في اقتصاد صغير ومنفتح، كان قد سجّل فائضاً في تلك الفترة. وبموجب هذا الانهيار المصطنع أعطى البنك المركزي، كلفة تحديد سعر الصرف لخمسة مصارف كبرى. الهدف كان جذب أغنياء الخليج وأصحاب الرساميل بالعملة الأجنبيّة، لشراء عقارات لبنان بأرخص الأسعار بعدما فقّروا الناس".

المكلّف يدفع الضريبة من دون الحصول على الخدمة المتوقّعة

بالنسبة إلى قرم، أسهم مصرف لبنان بإعادة تكوين رساميل المصارف التي تضرّرت في خلال الحرب وزيادة احتياطاتها، من جراء سياسته المُتبعة من خلال "الاستمرار بإصدار سندات خزينة بفائدة 25-30%، على الرغم من عدم وجود حاجة للاقتراض، وذلك بناءً على طلب المصارف". ويتابع قرم الإشارة إلى فوائد خدمة الدين المرتفعة التي منحها مصرف لبنان قائلاً: "لو اعتمدت نسبة 5% فرق بين أسعار الفائدة في الخارج وأسعارها في لبنان، لبلغ الدين العام في لبنان في عام 2011 نحو 12.700 مليار ليرة بدلاً من 75 ألف مليار ليرة، ولبلغت خدمة الدين العام 24 ألف مليار بدلاً من 75 ألف مليار. ما من بورصة في العالم أعطت أرباحاً كما أعطى مصرف لبنان للمصارف"، مشيراً إلى أن المصارف، بعد باريس 2، عرضت إقراض الدولة 4 مليارات دولار من دون فوائد لمدة 3 سنوات، كي لا تنفّذ الأخيرة توجيهات المؤتمر، بالاستدانة من جهات خارجيّة بفائدة 5% على 15 سنة (المصارف كانت تقرض الدولة بفائدة 14%).
إلى ذلك، تُعَدّ إعادة النظر في إدارة خدمة الدين العام الوسيلة الأولى لترشيد النفقات وتخفيف العجز، بحسب قرم، إذ شكّلت سندات الخزينة 42% من إيرادات المصارف بين عامي 1993-2005، مشيراً إلى أنَّ "خفض الفائدة الممنوحة للمصارف لتمويل الدين العام بنسبة 1% كفيلة بتوفير 150 مليون دولار"، داعياً إلى "نزع صلاحيّة إدارة الدين العام من البنك المركزي وإعادتها إلى وزارة الماليّة".

ترشيد الإنفاق ووقف الهدر

لا تحلّ مشاكل الموازنة دون الحديث عن النفقات والحدّ من الهدر، وهذا ما عبّر عنه كلّ من الخبير الاقتصادي أحمد جابر والأستاذ الجامعي عصام إسماعيل. يشير جابر إلى أنَّ "الموازنة أداة مهمّة للتخطيط والرقابة والمحاسبة وتحقيق أهداف المجتمع، وترتكز عليها الدولة لإشباع الحاجات وتحسين الاقتصاد وتحقيق العدالة الاجتماعيّة". في لبنان يعدُّ الإنفاق على الخدمات الاجتماعيّة مجحفاً، "إذ بلغ نحو 15.51% بين عامي 2001-2005، ويشمل الإنفاق على الصحة والتعليم والشؤون الاجتماعيّة والإسكان والرياضة والثقافة والإعلام". ويتابع جابر: "تستحوذ الأجور على نسبة 32% من النفقات، كهرباء لبنان 15%، فوائد الدين العام 30%، والاستثمار 1.28%".
من جهته، حدد مدير "المؤسّسة اللبنانيّة للخدمة الضريبيّة" أمين صالح، وظائف الموازنة، وأهمّها التخطيط والتنفيذ اللذان يسبقان ويتلازمان مع الموازنة، تحديد المسؤوليّات والإبلاغ عنها خلال الموازنة، تطوير النظام الموازني الحكومي لتوفير البيانات الماليّة والتحليليّة، إضافة إلى تطوير أساليب إعداد التقارير والقياس والمتابعة والرقابة على الموازنة. ذلك لكون مشاكل الموازنة تتمثّل: 1- بالانتقال من موازنة بنود كلاسيكيّة إلى موازنة برامج وتخطيط وأداء. 2- إنجاز حسابات الدولة الماليّة. 3- التمويل. 4- إدارة الدين العام. 5- الإنفاق.