مرة أخرى، تتحفنا السلطة السياسية القائمة في البلد، حكومة ومجلس نواب، بأداءٍ يضرب عرض بالحائط مصالح شرائح واسعة من الشعب اللبناني، وبإخراج سيئ يستفزُّ مشاعرهم من ناحية التخبط والارتجال، كنتيجة حتمية لتضارب مصالحهم في زمن الشحّ المالي ومع اقتراب ساعة الانتخاب، فنزل الناس بالآلاف إلى الشارع رافضين ابتزازهم بحرمانهم من حقهم بتصحيح الأجور ما لم يرضخوا لضرائب تنال من مَن هم الأكثر هشاشة على الصعيد الاقتصادي، وبرغم تجاربهم السابقة المؤلمة في مواجهة السلطة في محطات كثيرة خلال الأعوام السابقة، استطاعوا ابتكار مشهد جميل يعكس شعباً يُعادي اليأس.
القطيعة مع اليأس، بالإضافة إلى القراءة السياسية الواضحة، والالتزام المطلق بمصالح مجتمعنا، ما دفعنا في «حركة مواطنون ومواطنات في دولة» إلى تحديد هدفنا السياسي الواضح: المساهمة الفاعلة في بناء دولة مدنية ديموقراطية قادرة وعادلة. من هذا المنطلق، اخترنا أن نكون في كل المواجهات التي تخدم هذا الهدف، وبالتالي كنا في الشارع مع مجموعات أخرى، ومع المواطنين والمواطنات يوم 19 آذار الجاري، كما سنكون في كل المواجهات والاستحقاقات القادمة التي تعزّز سبل الخروج من الانتماءات المفروضة إلى فضاء الدولة الرحب، الفضاء الوحيد الذي يستحق صفة الوطن.
إن ما اصطُلح على تسميته بـ«سلسلة الرتب والرواتب» لا يعدو بالنسبة إلينا كونه تصحيحاً للأجور تأخر وتراكم على مدى الواحد والعشرين سنة الماضية، حيث تضاعفت إيرادات الدولة أكثر من أربع مرات نتيجة لارتفاع الأسعار ولغيرها من العوامل، وإن زادت أعباؤها نتيجة لسياسات تراكم الدين كمن يلحس المبرد، وبالتالي فإن أيّ بحث في «تمويل السلسلة» هو ذرٌّ للرماد في العيون، بهدف تمويل العجز العام في الموازنة (المغيبة منذ أكثر من 11 سنة) والناتج عن سياسات اقتصادية قائمة على تراكم الاستدانة لتمويل الاستزلام عبر الفساد من جهة، ولتراكم أرباح الريوع، ولا سيما المصرفية منها، من جهة أخرى. وأن يكون كل هذا، على حساب أجيال كاملة من الشباب لا تجد أمامها إلا الهجرة أو البطالة، وعلى حساب أمن اجتماعي و اقتصادي، هو أصلاً عرضة لمخاطر اقتصادية خارجية جمّة (كارتفاع أسعار الفائدة العالمية على الدولار الأميركي مثلاً)، فهو ما لا يرفّ له جفن عند السلطة السياسية الحالية.
السلطة السياسية اليوم أمام امتحان مصيري لها وللبلد. محاولات التشاطر والالتفاف والمناورة لن تؤدي إلى نتيجة. إن كان من حوار فيجب ألا يكون على النتائج، بل على الأسباب وكيفية تعديل مسار انهيار الدولة باتجاه إعادة بنائها، وبالتالي ليس من واجبنا كمواطنين ومواطنات أن نقدّم النصائح ولا الاستشارات للسلطة، بل علينا التمسّك بما هو حق لنا وواجب علينا: بناء دولة فعلية.
نحن كذلك، وكل المجموعات والناس الذين نزلوا إلى الشوارع في محطات كثيرة سابقاً واليوم، أمام امتحان مصيري لنا وللبلد: إما أن ننجح في تعديل ميزان القوى السياسي لمصلحة ما هو ضروري لحماية المجتمع، أو نًستدعى فرادى وجماعات إلى طاولات نقاش في النتائج لا تنتهي، وفي نفس الوقت، يُستدعى بعضنا إلى المخافر لندفع ثمن الهروات التي ضُربنا بها.
من طبيعة التحركات والتعبيرات السياسية الشعبية أن تتعدد الآراء فيها، وهذا صحيٌّ، لا بل حيوي. من ناحية أخرى، لا بد لأيّ عمل سياسي جماعي من حدِّ أدنى من تنسيق الأهداف والخطاب والوسائل من أجل الوصول إلى الأهداف المشتركة، ودروس أعوام 2011 حتى اليوم ما زالت ماثلةً أمامنا. من هذا المنطلق، ندعو أنفسنا وكل شركائنا في النضال من أجل الحقوق من مجموعات وأحزاب ومواطنين إلى اليقظة والحذر من تشاطر السلطة ومن غفلة وعينا.
معن الأمين
عضو مؤسس في «حركة مواطنون ومواطنات في دولة»