نجح رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط في احتفال الذكرى الـ40 لاغتيال مؤسّس الحزب وقائد «الحركة الوطنية» كمال جنبلاط، في المختارة أمس، في إيصال رسائله إلى رئيس الجمهورية ميشال عون: لا يمكن تخطّي «الفيتو» الجنبلاطي على أيّ قانون انتخاب منتظر، وتجربة الرئيس الراحل كميل شمعون مع الراحل كمال جنبلاط لا تصلح في عام 2017.
لكنّ احتفال المختارة قدّم مشهداً «سوريالياً» في الشّكل والمضمون. ومع أن النشاط المحموم لماكينة الاشتراكيين، التنظيمية والدينية المتمثّلة بالمشايخ الجنبلاطيين ومشايخ مؤسسة العرفان، بُنِيَ على «التهميش والإقصاء المتعمّد من قبل العهد الجديد للدروز» وكلام الوزير جبران باسيل الأخير حول مجلس الشيوخ، لم يشر جنبلاط، ولا مرّة واحدة، إلى الخلاف مع القصر الجمهوري.
في الشكل، بدت الساحة الخارجية لقصر المختارة وطرقات البلدة ممتلئة بالحشود التي وفدت من الجبل ووادي التيم، حاملةً رايات الاشتراكي وأعلام «الخمس حدود».

لم يبقَ من «العمق العربي للدروز» سوى سوريا وحزب الله


لا تقدير رسمياً لعدد المشاركين، لكنّ العدد المتوقّع من أخصام جنبلاط وحلفائه كان أكبر من الحضور، وبما لا يتناسب مع حملات التحشيد في المناطق، مالاً وتنظيماً ودعايةً، مع أن رسالة القوّة الشعبية ظهرت. في الشكل أيضاً، كان اختيار الكوفية الفلسطينية رمزاً للاحتفال بمثابة عودة إلى زمن كمال جنبلاط والصراع المسلّح مع «اليمين اللبناني» وتثبيت «العمق العربي للدروز»، في وقتٍ تخلّى فيه الخليجيون (حلفاء جنبلاط الحاليون) عن فلسطين ويتحالفون مع إسرائيل علناً. وللمفارقة، لم يعد اسم فلسطين موجوداً، إلّا لدى أطراف المحور الذي شنّ عليه جنبلاط أقسى الحملات طوال السنوات الـ12 الماضية.
وفيما كان الحديث عن احتمال تسليم الراية بشكلٍ رسمي خلال الاحتفال لتيمور جنبلاط، بعد أسابيع على إطلالته الإعلامية الأولى مع جريدة الشرق الأوسط السعودية، بدا إلباس جنبلاط الكوفيّة الفلسطينية لابنه «نصف تطويب»، تاركاً هامشاً كبيراً للزعامة بين الأب وابنه، حسب الحاجة والموقف في المرحلة المقبلة. وربّما اختلف طقس التطويب هذه المرّة، فلا أحد يحلّ مكان الشيخ محمد أبو شقرا، ولا أحد من الوزراء والشخصيات الدرزية الحاليين يحلّ محل الشيخ بهيج تقي الدين أو الوزير خالد جنبلاط، الذين ألبسوا وليد جنبلاط عباءة والده بعد اغتيال الأخير قبل 40 عاماً. لكنّ حُلم «البيك» تحقّق، بأن يكون الجنبلاطي الأوّل الذي يسلّم الزعامة (أو نصفها) لابنه، وهو حيّ. غير أن «نصف التطويب» هذا ليس الأوّل من نوعه. ففي تمّوز 2015، بارك الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند، خلال استقباله جنبلاط وابنه، إعلان جنبلاط من قصر الإليزيه نيّته «إلباس العباءة» لابنه، قائلاً إنه «لا يتصور لبنان من دون أحد من عائلة جنبلاط». لكنّ جنبلاط ردّ التحيّة يومها بأحسن منها، وبحسب جريدة «الحياة»، قال لهولاند إن «هناك علاقة تاريخية منذ أيام الست نظيرة (جدته لأبيه) ودور فرنسا كان انتداباً»، ولم ينسَ طبعاً الإشادة بالاحتلال الفرنسي لبلاد الشام، مؤكّداً أن «الانتداب كان حضارياً، في حين أن الاستعمار كان همجياً في بعض الأماكن». لم يتأخّر «البيك» كثيراً، ودّع هولاند (قبل أسابيع) الذي سيترك الإليزيه خلال شهرين، وعاد مسرعاً إلى بيروت، ليلبس تيمور أمس كوفية فلسطينية، لكن ببركة وفدَي حزب الله وحركة أمل.
ومع أن جنبلاط اعتمد أمس على الشكل أكثر من المضمون في الخطاب، من الحشد إلى الحضور السياسي، لا سيّما وفدي حزب الله وحركة أمل والرئيس سعد الحريري، مروراً بـ«ثوّار الـ1958» الذين حضر من تبقّى منهم حيّاً بأسلحته القديمة وثيابه الزيتية و«نصف التطويب» لتيمور، إلّا أن الخطاب السياسي كان «نصف موقفٍ» أيضاً. احتل «الماضي» الجزء الأكبر من الخطاب، مذكّراً بالمعسكر الذي وقف إلى جانبه يوم أسقطت سوريا وحلفاؤها اتفاق 17 أيّار، ومشيداً بالسوريين والفلسطينيين و«الإسلاميين». وحين أتى الخطاب على التذكير بـ«مصالحة الجبل»، بدا وكأن المصالحة تمّت مع البطريرك نصرالله صفير في آب 2001... وتوقّفت هناك!
ووسط النّواب علي بزّي وحسن فضل الله وحسين الحاج حسن والحريري، فهم أكثر من طرف أن جنبلاط أمس يحاول إحياء «تحالف إسلامي» بوجه عون، يحميه أوّلاً، ووردة النائب جورج عدوان الحمراء على قبر كمال جنبلاط تشكّل الغطاء المسيحي الكافي.
غير أن عبارة «لذا يا تيمور سر رافع الرأس، واشهر عالياً كوفية فلسطين العربية المحتلة... كوفية المقاومين لإسرائيل أيّاً كانوا»، تصلح لتكون مفتاح تحوّلات جنبلاطية مقبلة، كتلك الانعطافة الشهيرة في 2 آب 2009، بما يفسّر الاستقبال الشعبي والاشتراكي الحار لوفد حزب الله، وما سمعه نوّاب الحزب من المحازبين الاشتراكيين العاديين عن أن «حزب الله ضمانتنا»، على الرغم من بعض التحريض على الحزب، الذي لا يزال يمارسه مشايخ ورجال مقرّبون من المختارة.
وربّما استشعر جنبلاط أخيراً أخطار المستقبل، والحاجة المقبلة إلى دوره في تثبيت «العمق العربي للدروز»، الذي لم يبقَ منه سوى سوريا ورئيسها بشّار الأسد وحزب الله وقائده السيد حسن نصرالله.