هل ثمة محرّك لـ«حفلة الجنون» الافتراضية التي رافقت نقاش السلسلة؟ وهل تقف جهات محددة خلف «شيطنة الضرائب»، وتصوير نقاش سلسلة الرتب والرواتب في مجلس النواب موجهاً حصراً ضد ذوي الدخل المحدود والطبقة الوسطى؟ بداية، لا بد من لفت الانتباه إلى أن مجلس النواب لم يُصدر بعد أيّ قانون بفرض ضرائب جديدة.
تم التصويت على بنود ضريبية، من دون أن تتحوّل إلى قانون نافذ. ومما أقرّ حتى اليوم، لا شيء يوجب التوقف عنده سوى رفع الضريبة على القيمة المضافة من 10 في المئة إلى 11 في المئة. ورغم تأكيد المعنيين أن المواد الغذائية والأدوية وغيرها من الأساسيات غير مشمولة بهذه الضريبة، فإن التجارب السابقة تُثبت أن أي زيادة ضريبية سترفع الأسعار بصورة جنونية. وبالفعل، استغلّ تجار كثر النقاش التشريعي، ورفعوا أسعار الكثير من السلع، فيما وزارة الاقتصاد تكتفي حتى الآن ببيان تتحدّث فيه عن تحركها لضبط الأسعار وتنظيم المحاضر بحق المخالفين.
في المحصلة، أطاحت إدارة الجلسة النيابية (والطريقة الكاريكاتورية التي خُتِمت بها) إمكان إقناع الرأي العام بأهمية جزء من الضرائب المقترحة ضمن السلة الضريبية التي يناقشها مجلس النواب. فبعض الضرائب المقترحة لا يمكن وصفها سوى بـ«الضرائب الحميدة»، كونها تطال المصارف والمؤسسات المالية والعقارية. ويرفع تكتل هذه المؤسسات لواء «شيطنة الضرائب»، مصوّراً إقرارها بمثابة شرارة انهيار الاقتصاد اللبناني. وهو بذلك يريد أن يسيّج أرباحه الخيالية، المبنية بمجملها على المال العام، أي مال الشعب. ويهدف إلى منع أي نقاش جدي، يتيح فرض ضرائب ورسوم تعيد توزيع جزء ولو ضئيل من الثروة بصورة فيها حد أدنى من العدالة. واللافت أن القطاع المصرفي، معتمداً على صمت الإعلام، وعلى وجود ممثلين له في عدد كبير من الكتل السياسية الوازنة، وعلى «تجاهله» من قبل القيمين على بعض التحركات المطلبية، نجح في إبعاد أرباحه الخيالية عن طاولة النقاش كلّما بدأ البحث عن إيرادات جديدة للخرينة. وفي كل درس للنفقات في الموازنة، يجري التصويب على بند الرواتب، ولا يُذكر بند «خدمة الدين العام» إلا لماماً، من دون أن يطرح أي فريق سياسي احتمال المس به.
في مشروع موازنة عام 2017، خُصّص لبند «خدمة الدين العام» (أي الفوائد التي ستدفعها الدولة من مال اللبنانيين للدائنين، أي للمصارف) مبلغ 7100 مليار ليرة لبنانية. وبحسبة بسيطة، إذا تم خفض الفائدة على سندات الخزينة، بنقطة واحدة، فإن ذلك سيوفّر على الخزينة العامة نحو 1100 مليار ليرة. ماذا يعني هذا الرقم؟ يعني أن بمقدور الدولة تمويل سلسلة الرتب والرواتب كاملة (كلفة «السلسلة» محددة بـ1200 مليار ليرة)، نتيجة خفض الفائدة على سندات الخزينة. لكن هذا النقاش ممنوع.
الدولة مطالَبة برفع الضريبة على المصارف، بصورة تسمح باسترداد جزء من المال العام الذي استُخدم منذ عام 1992 حتى اليوم لمراكمة ثروات عدد ضئيل جداً من الأثرياء. في العام الماضي وحده، سجّلت المصارف ملياري دولار أرباحاً عادية، ونحو 5.5 مليارات دولار أرباحاً استثنائية من الهندسة المالية التي نظّمها مصرف لبنان. (ثمة أفراد وعائلات استفادوا من الهندسة لتحقيق أرباح فلكية، كأن يُحقق شخص واحد ربحاً بلغ نحو 85 مليون دولار، في عملية تحويل أموال احتاجت إلى دقائق معدودة).
صحيح أن باب فرض ضرائب إضافية على المصارف طُرِق في السلة الضريبية المقترحة في مجلس النواب حالياً، لكن أحداً من القوى السياسية لم يجرؤ بعد على قول الأمور كما هي: الدولة منهكة لأسباب شتى. وأول هذه الأسباب، الأموال التي تدفعها سنوياً للمصارف. ولا يمكن الخروج من المسار الانحداري الذي دخلته البلاد منذ عقدين، إلا بإعادة النظر في العلاقة المعتلّة بين الدولة والمصارف. أول الغيث يجب أن يكون بفرض ضرائب بنسب مرتفعة جداً على المؤسسات المصرفية، وبإعادة النظر في سياسة الاستدانة، وبطريقة تحديد أسعار الفوائد على سندات الخزينة التي تمتص المال العام، أي مال دافعي الضرائب المطلوب منهم دفع المزيد منها اليوم.
سيخرج أصحاب المصارف، وبعض فطاحلة الاقتصاد، ساخرين من أيّ نقاش في هذا المجال. وسيهدّدون قائلين إن أيّ مسّ بأسعار الفوائد سيؤدي إلى انهيار شامل، ملوّحين بالتوقف عن إقراض الدولة. حبّذا لو يفعلونها!